الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
6089 - وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر : " لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجون أن يعطاها . فقال : " أين علي بن أبي طالب ؟ " . فقالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه . قال فأرسلوا إليه " . فأتي به فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية فقال علي : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ قال : " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم " . متفق عليه .

وذكر حديث البراء ، قال لعلي : " أنت مني وأنا منك " في باب " بلوغ الصغير " .

التالي السابق


6089 - ( وعن سهل بن سعد ) ، أي الساعدي ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر ) ، أي : زمن محاصرته أو آخر نهار من أيامه لما في البخاري : فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( " لأعطين هذه الراية " ) أي : العلم التي هي علامة للإمارة " غدا " أي : في غد " رجلا يفتح الله على يديه " ، أي بسببه ( " يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ) وفيه إيماء إلى قوله تعالى : يحبهم ويحبونه وبحثه طويل الذيل عزيز النيل ، وفي رواية قال : فبات الناس يدوكون ليلهم أيهم يعطى ، والدوك : الخوض ( فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، أي : أتوه وقت الغدوة ( كلهم يرجون ) ، أي : يتمنون ( أن يعطاها ) ، أي الراية التي هي آية الفتح ، فجمع الضمير في يرجون نظرا إلى معنى " كلهم " ، وأفرد في يعطى نظرا إلى لفظه ، وفيه لطيفة وهي شمول الرجاء دون حصول الإعطاء ( فقال : " أين علي

[ ص: 3934 ] بن أبي طالب
" ) ؟ فيه : أنه وقع في هذا المقام مرادا وغير مريد ، والله غالب على أمره في إعطاء المزيد لمن يريد . ( فقالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه ) . والمعنى أنه حصل عذر لديه .

أقول ، أي : أين علي ؟ ما لي لا أراه حاضرا ؟ فيستقيم جوابهم : هو يا رسول الله يشتكي عينيه ، نحوه قوله تعالى : ما لي لا أرى الهدهد كأنه - صلى الله عليه وسلم - استبعد غيبته عن حضرته في مثل تلك المواطن ، ولا سيما وقد قال : " لأعطين هذه الراية " إلى آخره ، وقد حضر الناس كلهم طمعا بأن يكون هو الذي يفوز بذلك الوعد ، وتقديم القوم الضمير وبناء يشتكي عليه اعتذار منهم على سبيل التأكيد .

( قال : " فأرسلوا إليه " ) . بكسر السين والمعنى فأرسلوا إليه . ( فأتي به ) أي فجيء به ( فبصق ) : وفي رواية : فلما جاء بصق ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، أي : ألقى بزاقه ( في عينيه ) : وفي رواية فدعا له ( فبرأ ) : بفتح الراء وقد يكسر أي : فصح علي من جهة عينيه وعوفي عافية كاملة ( حتى كأن لم يكن به وجع ) ، أي ولا سبب وجع من الرمد ولا ضعف بصر أصلا ( فأعطاه الراية فقال علي : يا رسول الله ، أقاتلهم ) : بهمزة مقدرة أو بدونها ( حتى يكونوا مثلنا ) ؟ أي حتى يسلموا ( قال : " انفذ " ) بضم الفاء أي امض ( " على رسلك " ) : بكسر فسكون أي رفقك ولينك ( " حتى تنزل بساحتهم " ) ، أي حتى تبلغ فناءهم من أرضهم ( " ثم ادعهم إلى الإسلام " ) ، أي : أولا ( " وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه " ) ، أي في الإسلام ، وكان هنا محذوفا أو جملة مطوية ، وهي : فإن أبوا عنه فاطلب الجزية ، فإن أبوا فقاتلهم حتى يسلموا حقيقة أو حكما أو معناه ينقادوا قال الطيبي : وكأنه - صلى الله عليه وسلم - استحسن قوله : أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ، واستحمده على ما قصده من مقاتلته إياهم حتى يكونوا أمثالنا مهتدين إعلاء لدين الله ، ومن ثم حثه - صلى الله عليه وسلم - على ما نواه بقوله : ( " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم " ) يراد به حمر الإبل وهي أعزها وأنفسها ، ويضربون بها المثل في نفاسة الشيء ، وإنه ليس هناك أعظم منه قال النووي : تشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا إنما هو التقريب للأفهام وإلا فقدر يسير من الآخرة خير من الدنيا بأسرها وأمثالها معه أقول : والظاهر أن قول : فوالله . . إلخ تأكيد لما أرشده من دعائهم إلى الإسلام أولا ، فإنه ربما يكون سببا لإيمانهم من غير حاجة إلى قتالهم المتفرع عليه حصول الغنائم من حمر النعم وغيرها ، فإن إيجاد مؤمن واحد خير من إعدام ألف كافر على ما صرح به ابن الهمام في أول كتاب النكاح معللا به على وجه تقديمه كله على كتاب السير والجهاد ، والحمر : بضم فسكون جمع أحمر ، وأما بضم الميم فهو جمع حمار ، والنعم بفتحتين وقد يكسر عينه على ما في القاموس ، الإبل والشاء أو خاص بالإبل ، وأما النعم بكسر النون فهو جمع نعمة . ( متفق عليه ) . وروى الطبراني عن أبي رافع مرفوعا " لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس " . أي خير من الدنيا وما فيها ، وقيل : أراد أن تكون له ويتصدق بها .

وفي الرياض : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر : " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله عليه " . قال عمر : فما أحببت الإمارة إلا يومئذ فتشارفت فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا فأعطاه إياها وقال : امش ولا تلتفت فسار علي شيئا ، ثم وقف ولم يلتفت فصرخ ، يا رسول الله ، علام أقاتل ؟ فقال رسول الله : " قاتلهم حتى يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله - عز وجل - " أخرجه مسلم .

[ ص: 3935 ] وعن سلمة بن الأكوع قال : كان علي قد تخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر ، وكان به رمد فقال : أنا أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فخرج علي فلحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلما كانت الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لأعطين الراية أو ليأخذن الراية غدا رجل يحبه الله ورسوله - أو قال : يحب الله ورسوله - يفتح الله عليه فإذا نحن بعلي وما نرجوه فقال : " هذا علي " فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه البخاري ومسلم .

وعن بريدة قال : حاصرنا خيبر فأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له ، ثم أخذ عمر من الغد فخرج ورجع ولم يفتح له وأصاب الناس يومئذ شدة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني دافع غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله ، ويحب الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح عليه " . فبتنا طيبة أنفسنا أن الفتح غدا فلما أصبح - صلى الله عليه وسلم - قام قائما ، فدعا باللواء والناس على مصافهم ، فدعا عليا وهو أرمد ، فتفل في عينه ودفع اللواء إليه ، ففتح له . قال بريدة : وأنا ممن تطاول لها . أخرجه أحمد في المناقب .

وعن سلمة بن الأكوع قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق برايته ، وكانت بيضاء إلى بعض حصون خيبر ، فقاتل ورجع ولم يكن فتح ، وقد جهد ، ثم بعث الغد عمر بن الخطاب فقاتل ، ولم يكن فتح وقد جهد ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار " فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا وهو أرمد ، فتفل في عينيه ، ثم قال : " خذ هذه الراية فامض حتى يفتح الله عليك " قال سلمة : فخرج والله بها يهرول هرولة ، وإنا خلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن ، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب . قال اليهودي : علوتم وما أنزل على موسى أو كما قال . فما رجع حتى فتح الله على يديه ، أخرجه ابن إسحاق .

وعن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم : خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برايته ، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود وطرح ترسه من يده ، فتناول علي بابا كان عند الحصن فترس به نفسه ، فلم يزل بيده حتى فتح عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ ، فلقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا ثامنهم نجتهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه . أخرجه أحمد في المناقب .

وعن جابر بن عبد الله أن علي بن أبي طالب حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ، فافتتحوها ، وبعد ذلك لم يحمله أربعون رجلا . وفي طريق ضعيف ، ثم اجتمع عليه سبعون رجلا ، فكان جهدهم أن أعادوا الباب . أخرجهما الحاكمي في الأربعين .

وعن علي قال : ما رمدت بعد تفل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عيني . أخرجه أحمد ، وأخرج أحمد أيضا عن عبد الرحمن بن أبي يعلى قال : كان أبي يسمر مع علي ، وكان علي يلبس ثياب الصيف في الشتاء ، وثياب الشتاء في الصيف ، فقيل له : لو سألته ؟ فسأله فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلي وأنا أرمد العين يوم خيبر ، فقلت : يا رسول الله إني أرمد العين قال : فتفل في عيني وقال : " اللهم أذهب عنه الحر والبرد " فما وجدت حرا ولا بردا منذ يومئذ . وقال : " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ليس بفرار " فتشرف لها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطانيها .

( وذكر حديث البراء : قال لعلي : " أنت مني وأنا منك " في باب بلوغ الصغير ) . أي : لما كان له تعلق بالحضانة ، والحديث هناك مشتمل على فضل علي ، وجعفر ، وزيد بن حارثة - رضي الله عنهم - أجمعين .

[ ص: 3936 ]



الخدمات العلمية