الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
121 - وعن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها ، فنثرهم بين يديه كالذر ، ثم كلمهم قبلا ؛ قال : ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) رواه أحمد .

التالي السابق


121 - ( وعن ابن عباس ) : رضي الله عنهما ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أخذ الله الميثاق ) من ظهر آدم بنعمان ـ يعني : العهد أي : أراد أخذه بدليل قوله : فأخرج ، ( من ظهر آدم ) أي : من الذرية التي تظهر من ظهره ( بنعمان ) : قال الجوهري : نعمان بالفتح ، واد في طريق الطائف يخرج إلى عرفات ، وفي " القاموس " واد وراء عرفة ، وهو نعمان الأراك ، وفي " النهاية " جبل بقرب عرفة ، ويقال له نعمان السحاب ؛ لأنه لا يركد فوقه لعلوه فلمجاورته لها ، قال أي : الراوي : ( - يعني عرفة - فأخرج من صلبه ) : بضم أوله ، وهو فقار الظهر ( كل ذرية ذراها ) : بالهمز أي : خلقها إلى يوم القيام من ذرا الله الخلق أوجد أشخاصهم ؛ يعني بعضهم بواسطة ، وبعضهم بغيرها ، ( فنثرهم ) أي : فرقهم وبثهـم ، ونشرهم ( بين يديه ، ) أي : قدام آدم ، أو بعضهم في يمينه ، وبعضهم في شماله ( كالذر ) ، أي : مشبهين بالنمل في صغر الصورة ( ثم كلمهم ) أي : خاطبهم سبحانه وتعالى ( قبلا ) : بضمتين ، وقيل : كعنب ، وصرد وقفل ، وجبل ، وهو حال ؛ أي : كلمهم عيانا ، ومقابلة لا من وراء حجاب ، ولا بأن يأمر أحدا من ملائكته ( قال ) : استئناف بيان . وقال ابن حجر : بدل من كلمهم ؛ أي : وقال لهم ( ألست بربكم قالوا بلى ) : أنت ربنا . قال ابن عباس : لو قالوا بدل : بلى نعم لكفروا . قال ابن حجر : لأنها لتقرير النفي ، وبلى رد له ، ونفي النفي إثبات ، قال في المغني : ولذا قال جماعة من الفقهاء لو قال أليس لك علي ألف ؟ فقال : بلى لزمه ، ولو قال : نعم لم يلزمه ، وقال آخرون : يلزمه فيهما ، وجروا في ذلك على مقتضى العرف ، ثم قال : ولكن يقع في كتب الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد ففي " صحيح البخاري " في : " كتاب الإيمان " : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة " ، قالوا بلى ، وفي : " صحيح مسلم " في " كتاب الهبة " : أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : بلى قال : فلا إذن ، وفيه أيضا أنه قال : أنت الذي لقيتني بمكة ؟ فقال له المجيب : بلى ، ثم قال : لكن هذا قليل فلا يتخرج عليه التنزيل اهـ .

ولا يخفى أن هذه الأمثلة ليس من قبيل المتنازع فيه . في الأزهار : والصحيح أن جوابهم بقول بلى كان بالمطلق ، وهم أحياء عقلاء ، وقيل : بلسان الحال ، ثم قيل تجلى للكفار بالهيبة فقالوا : بلى مخافة فلم ينفعهم إيمانهم ، وتجلى للمؤمنين بالرحمة ، فقالوا : بلى طوعا فنفعهم إيمانهم ( شهدنا ) : هو يحتمل أن يكون من تتمة المقول أي : شهدنا على أنفسنا بذلك ، وأقررنا بوحدانيتك ، وإنما احتاجوا إلى هذا مع أن بلى يغني عنه ؛ لقوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ) ويحتمل أن يكون ابتداء كلام الله تعالى أي : شهدنا على إقراركم ، ويؤيد الأول تقدير الطيبي فعلنا ذلك كراهة ( أن تقولوا ) أي : احتجاجا ، وقيل : لئلا تقولوا ، والجمهور بالخطاب ، وأبو عمرو بالغيبة في الموضعين على الالتفات ، وقال بعض المفسرين : قال الله تعالى للملائكة : اشهدوا . قالوا شهدنا . وقال بعضهم قال الله : شهدنا يعني نفسه ، والملائكة والسماوات ، والأرض . قال سهل بن عبد الله : أنا أتذكر ذلك الميثاق ( يوم القيامة ) : ظرف أن تقولوا ؛ أي : حين يحاسبون على كفرهم بالله وبكتبه ورسله ، والمقول ( إنا كنا عن هذا ) أي : الميثاق ، أو الإقرار بالربوبية ، والاعتراف بالعبودية ( غافلين ) أي : جاهلين لا نعرفه ، ولا نبهنا عليه ، ( أو تقولوا ) أي : البعض المتأخرون احتجاجا آخر ( إنما أشرك آباؤنا من قبل ) أي : من قبل ظهورنا ووجودنا ، أو من قبل إشراكنا [ ص: 197 ] ( وكنا ذرية من بعدهم ) : فاقتدينا بهم فاللوم عليهم لا علينا ( أفتهلكنا ) أي : أتعلم ذلك فتعذبنا ( بما فعل المبطلون ) : من آبائنا بتأسيس الشرك ، والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد ، والتذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس . ( رواه أحمد ) : وقال ابن حجر : رواه أحمد ، والنسائي ، وليس النسائي موجودا في النسخ ، ولعله إلحاق في الشرح ، لكنه مستبعد منه لأنه ليس من دأبه . قال ميرك شاه : كذا رواه أحمد مرفوعا ، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس ، ورواه ابن أبي حاتم ، وغيره من طرق كثيرة ، والله أعلم اهـ .

وقال التوربشتي : هذا الحديث مخرج في كتاب أبي عبد الرحمن النسائي ، ولا يحتمل من التأويل ما يحتمله حديث عمر رضي الله عنه ، ولا أرى المعتزلة يقابلون هذه الحجة إلا بقولهم : حديث ابن عباس هذا من الآحاد فلا نترك به ظاهر الكتاب ، وإنما هربوا عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر الحديث لمكان قوله تعالى : ( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) فقالوا : إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر ، وشاهدوه عين اليقين ، فلهم يوم القيامة أن يقولوا شهدنا يومئذ ، فلما زال عنا علمنا علم الضرورة ، ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ، ومنا من أخطأ ، وإن كان عن استدلال ، ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أن يقولوا أيدنا يوم الإقرار بالتوفيق ، والعصمة ، وحرمناهما من بعد ، ولو مددنا بهما لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول ، فقد تبين أن الميثاق ما ركز الله فيهم من العقول ، وآتاهم ، وآباءهم من البصائر لأنها هي الحجة الباقية المانعة لهم أن يقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين ، لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسل حجة عليهم في الإيمان بما أخبروا به من الغيوب .

قال الطيبي : وخلاصة ما قالوه أنه يلزم أن يكونوا محتجين يوم القيامة بأنه زال عنا علم الضرورة ، ووكلنا إلى آرائنا فيقال لهم : كذبتم بل أرسلنا رسلنا تترى يوقظونكم من سنة الغفلة . وأما قوله : حرمنا على التوفيق ، والعصمة من بعد ذلك . فجوابه : أن هذا مشترك الإلزام إذ لهم أن يقولوا لا منفعة لنا في العقول ، والبصائر حيث حرمنا عن التوفيق والعصمة ، والحق أن تحمل الأحاديث الواردة على ظواهرها ، ولا يقدم على الطعن فيها بأنها آحاد لمخالفتها لمعتقد أحد ، ومن أقدم على ذلك فقد حرم خيرا كثيرا ، وخالف طريقة السلف الصالحين ، لأنهم كانوا يثبتون خبر واحد عن واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويجعلونه سنة ؛ حمد من تبعها وعيب من خالفها اهـ .

وقال في الكشاف : نزل تمكين بني آدم من العلم بربوبيته بنصب الدلائل ، وخلق الاستعداد فيهم ، وتمكينهم من معرفتها ، والإقرار بها منزلة الإشهاد ، والاعتراف تمثيلا ، وتخييلا لا قول ثمة ، ولا شهادة حقيقة . أقول : لا منع من الجمع ، وبه يلتئم العقل ، والسمع . قال المولى العلامة قطب الدين الشيرازي - رحمه الله - : قد تقرر في بداية العقول أن بني آدم من ظهر آدم ، فيكون كل ما أخرج من ظهور بني آدم فيما لا يزال هم الذين قد أخرجهم الله تعالى في الأزل من ظهر آدم ، وأخذ منه الميثاق الأزلي ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج فيما لا يزال من أصلاب بني آدم هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم ، وأخذ منهم الميثاق الأول ، وهو المقالي الأزلي ، كما أخذ منهم فيما لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الثاني ، وهو الحالي الأزلي ، فلله سبحانه ميثاقان مع بني آدم أحدهما : تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي ، وثانيهما : المقالي الذي لا تهتدي إليه العقول ، بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الآباد كالأنبياء ، فأراد - عليه الصلاة والسلام - أن يعلم الأمة بأن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه ميثاقا آخر أزليا ، فقال ما قال من مسح ظهر آدم في الأزل إلخ . وهو في غاية التحقيق ، ونهاية التدقيق ، والله أعلم .

[ ص: 198 ]



الخدمات العلمية