الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

4600 - عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق وهو العلي الكبير . فسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا ، بعضه فوق بعض " ووصف سفيان بكفه فحرفها ، وبدد بين أصابعه " فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن . فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة . فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " . رواه البخاري .

التالي السابق


الفصل الثالث

4600 - ( عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا قضى الله الأمر ) أي : قدره أو حكم به ، والمعنى : أظهر قضاء ( في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها ) أي : مثنى وثلاث ورباع ( خضعانا ) : بضم أوله ويكسر ، أي : تواضعا وتخاشعا ( لقوله ) : وانقيادا لحكمه ، ففي النهاية : الخضعان مصدر خضع يخضع خضوعا وخضعانا ، وهو الانقياد والمطاوعة كالغفران والكفران ، ويروى بالكسر كالوجدان ، ويجوز أن يكون جمع خاضع . قالالطيبي : إذا كان جمعا كان حالا ، وإذا كان مصدرا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا لما في ضرب الأجنحة من معنى الخضوع ، أو مفعولا له . قلت : وهو الأظهر . قال : وذلك لأن الطائر إذا استشعر خوفا أرخى جناحيه مرتعدا . قلت : الله أعلم بكيفية ضرب جناحهم وسببيته من الخوف أو غيره . ( كأنه ) أي : قوله سبحانه ( سلسلة ) : بكسر السينين المهملتين ( على صفوان ) بفتح أوله أي : حجر أملس ، والجملة حال . ونظيره في المعنى قوله في صفة الوحي النازل عليه : أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال . ( فإذا فزع ) : بضم الفاء وتشديد الزاي أي : أزيل الفزع وكشف ( عن قلوبهم ) . وقرأ ابن عامر في قوله تعالى : حتى إذا فزع عن قلوبهم على بناء الفاعل ، وهو الله تعالى . قال الطيبي : وزوال الفزع عنهم هنا بعد سماعهم القول ، كالفصم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد سماع الوحي اهـ .

ولعله نظيره ، وإلا فالفرق ظاهر بينهما ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - يفصم عنه وقد وعى ما قال ، وهم يكشف الفزع عنهم ولم يدروا ما قال الله تعالى بقرينة السؤال ، أو يقال يحصل العلم لبعضهم من أرباب الكمال ، فقوله : ( قالوا ) أي : بعضهم ممن لم يدر إما لغلبة الفزع عليه ، أو لقلة الكشف له ( ماذا قال ربكم ؟ قالوا ) : وهم المقربون للسائلين وهم سائر الملائكة ( للذي قال ) أي : سبحانه وتعالى ( الحق ) : بالنصب أي : قالوا الحق لأجل ما قاله تعالى ، أي : عبروا عن قوله تعالى ، وما قضاه وقدره بلفظ الحق ، فالحق منصوب على أنه صفة مصدر محذوف ، أي : القول الحق ، وفي نسخة بالرفع ، فالتقدير قوله الحق ، والمراد بالحق إما كلمة كن أو ما يقابل الباطل ، فالمراد بكن ما هو سببها من الحوادث اليومية بأن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين ، ويولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيما ، ويسقم صحيحا ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعز ذليلا ويذل عزيزا ، ويفقر غنيا ويغني فقيرا ، فسبحان الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، وإنما كانت الكلمة حقا لا باطلا لقوله تعالى : ربنا ما خلقت هذا باطلا ، أي : عبثا ، بل هو صواب وحكمة ، ويجوز أن يراد به القول المسطور في اللوح المحفوظ ، والحق بمعنى الثابت ، أي : قضى وقدر وحكم في الكائنات بما كان مقررا في الأزل ثابتا في اللوح المحفوظ . ( وهو ) أي : الله سبحانه ( العلي ) أي : الرفيع شأنه ( الكبير ) أي : العظيم برهانه .

قال الطيبي : ويؤيد الأول تأنيث الكناية في قوله : ( فسمعها ) أي : الكلمة الحقة ( مسترقو السمع ) وإنما عدلوا عن صريح القول ، وهو التفصيل والتصريح بالمقضي من الشؤون والأمور إلى هذا القول المجمل الموجز ; لأن قصدهم في ذلك إزالة الفزع عن قلوبهم بالكلية ، يعني لا تفزعوا وتبقوا على قلوبكم ، فإن هذا القول هو ما عهدتموه كل يوم من قضاء الشؤون لا ما تظنونه من قيام الساعة ، هذا ومما يدل على أن المجيبين الملائكة المقربون كجبريل وميكائيل وغيرهما ، ما روى أبو داود عن ابن مسعود قال : إذا تكلم الله عز وجل بالوحي تسمع أهل

[ ص: 2909 ] السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا ، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل ، فإذا جاء جبريل فزع عن قلوبهم فيقولون : يا جبريل ! ماذا قال ربكم ؟ فيقول : الحق ، فيقولون : الحق . ( ومسترقو السمع ) : مبتدأ خبره ( هكذا ) وهو إشارة إلى ما صنعه من التحريف والتنديد وركوب بعضها على بعض . وقوله : ( بعضه فوق بعض ) . توضيح أو بدل وفيه معنى التشبيه ، أي : مسترقو السمع بعضه راكب بعضه مردفين كركوب أصابعي هذه بعضها فوق بعض ، وإفراد الضمير في بعضه ، والمرجوع إليه جمع لإرادة المذكور ، ومنه قوله تعالى : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا الضمير في منه جار مجرى اسم الإشارة ، كأنه قيل عن شيء من ذلك ، كذا حققه الطيبي .

( ووصف سفيان ) أي : ابن عيينة راوي الحديث ( بكفه ) أي : بأصابعه . ( فحرفها ) بتشديد الراء أي ففرج كفه ( وبدد ) : بتشديد الدال الأولى أي وفرق ( بين أصابعه ) قال الطيبي : أي بين كيفية ركوب بعضها فوق بعض بأصابعه كقوله تعالى : تصف ألسنتكم الكذب ، وقولك : وجهه يصف الجمال . ( فيسمع ) أي : أحدهم ، أو المسترق ( الكلمة ) : قال الطيبي : هو عطف على قوله : ومسترقو السمع ، وكلام الراوي معترض ، بينهما اهـ . والأظهر عندي أن هذا إعادة لقوله : فسمعها مسترقو السمع لطول الفصل بقول الصحابي ، ومسترقو السمع إلخ ، وبيان لتفسير التابعي بقوله ووصف إلخ . وإنما عدل عن الماضي إلى المضارع ; لأن المعنى عليه أو استحضارا للحال المشار إليه . ( فيلقيها ) أي : يرميها ويقذفها ( إلى من تحته ) أي من الجن ( ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر ) : وإنما عدل من " إلى " إلى " على " للإشارة إلى انتهاء الأمر واستقلال ظهور المقصود . قال الطيبي : والساحر المنجم كما جاء في الحديث : المنجم ساحر ; لأن الساحر لا يخبر عن الغيب اهـ . فأو في قوله ( أو الكاهن ) . للتنويع ، وحديث ابن عباس الآتي صريح في أن الكاهن ساحر ، فالساحر كاهن فأو للشك ( فربما أدرك الشهاب ) : بالرفع وفي نسخة بالنصب ( قبل أن يلقيها ) قال الطيبي : يحتمل أن يكون منصوبا ومرفوعا يعني : الجني قد يسترق السمع قبل أن يلقيه إلى وليه ، أدرك الشهاب أو أدركه الشهاب . قلت : الثاني هو الظاهر لقوله تعالى : إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب أي : لحقه وأدركه ، والشهاب ما يرى كأن كوكبا انقض ، ذكره البيضاوي . ( وربما ألقاها قبل أن يدركه ) وظاهره أن الإدراك واقع لا محالة . قال القاضي : واختلف في أن المرجوم هل يتأذى به فيرجع أو يحترق ، لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب ، كالموج لراكب السفينة ، ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا ، ولا يقال : إن الشيطان من النار فلا يحترق ; لأنه ليس من النار الصرف ، كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص ، مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها . ( فيكذب ) أي : الكاهن ( معها ) أي : مع تلك الكلمة المسموعة الصادقة الوقوع ( مائة كذبة ) أي : ويخبر الناس بتلك الكلمة في أثناء الكلمات الكاذبة ، فإذا أكذبه أحد ببعض كذباته ( فيقال ) أي : فيقول الناس ، وفي نسخة فقال ، أي : من يصدق الكاهن ( أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا ) أي : من الشهر والسنة ( كذا وكذا ؟ ) أي : من الخبر المطابق للواقع ( فيصدق ) : بصيغة المجهول مشددة الدال ، أي : الكاهن ، في جميع كلماته وكذباته ( بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ) أي : بسببها ، وهذا من أغرب الغرائب ، وأعجب العجائب أن الكاذب في مائة كلمة يعد صادقا بكلمة واحدة واقعة ، ومع هذا ما يصدقون من لم يسمع منه في جميع عمره إلا الصدق ، فالتصديق في التحقيق من التوفيق . ( رواه البخاري ) .




الخدمات العلمية