فصل : [ ] التيمم في شدة البرد
فأما إذا خاف من استعمال الماء التلف لشدة البرد لا للمرض فإن كان قادرا على إسخان الماء لم يجز أن يتيمم : لأنه يقدر بعد إسخان الماء أن يستعمله ، وإن لم يقدر على ذلك جاز أن يتيمم لحراسة نفسه : لأن الله تعالى يقول : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 178 ] . ولما روى عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص قال : عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل في شيئا . احتلمت في ليلة باردة وأنا في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إذ [ ص: 272 ] اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا
فإذا تقرر بهذا الحديث جواز التيمم في شدة البرد إذا خاف التلف من استعمال الماء فتيمم وصلى انتقل الكلام إلى وجوب الإعادة ، وذلك يختلف باختلاف حاله فإن كان في حضر فعليه الإعادة : لأن تعذر إسخان الماء في الحضر نادر ، وإن كان في سفر ففي وجوب الإعادة قولان ، وقال مالك وأبو حنيفة لا إعادة عليه مسافرا كان أو مقيما ، وقال أبو يوسف ومحمد : إن كان مقيما فعليه الإعادة ، وإن كان مسافرا فلا إعادة عليه ، فإذا قيل : بسقوط الإعادة وهو أحد القولين في المسافر ومذهب أبي حنيفة في المسافر والحاضر فوجه ما حكيناه من قصة عمرو بن العاص ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة ولو وجبت لأبانها مع حاجة عمرو إلى معرفتها ، ولأن من سقط عنه فرض الماء بالتيمم سقط الفرض عنه بالتيمم كالمريض العاجز ، والعادم المسافر .
فإذا قيل بوجوب الإعادة وهو المذهب في الحاضر ، وأحد القولين في المسافر فوجهه قوله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر [ المائدة : 6 ] وهذا ليس بمريض ولا مسافر عادم ، ولأن الأعذار النادرة لا تسقط معها الإعادة كالعادم للماء والتراب والأعذار العامة يسقط معها الإعادة كالعادم للماء في السفر وكالمريض في الحضر ، وتعذر إسخان الماء في البرد والخوف من استعماله من الأعذار النادرة ، فلم يسقط معه الإعادة ، فأما حديث عمرو فإنكار النبي صلى الله عليه وسلم له دليل على وجوب القضاء ثم وكله في تصريح الأمر به على ما علم من علمه ، إذ قد استدل على ما استباحه من التيمم فلم يجب عليه موجبه والمرض والسفر من الأعذار العامة .