وقد بسطنا الكلام على هذا الأصل العظيم في مواضع كثيرة، وبينا ما وقع من غلط الغالطين الذين لم يفرقوا بين الحقائق الكونية المتعلقة بمشيئته، وبين الحقائق الدينية المتعلقة برضاه ومحبته وإلهيته، فإن الحقيقة الكونية أقر بها اليهود والنصارى بل المشركون عباد الأصنام، كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ، وقال تعالى: قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون .
وكثير من أهل السلوك يشهدون هذه الحقيقة وتوحيد الربوبية، فيظنون أنهم وصلوا إلى الغاية المطلوبة من أهل التحقيق والمعرفة والتوحيد، حتى إن منهم من يكون في الباطن من المعاونين للكفار والفساق بحاله، ويظن أنه متصرف بأمر لمشاهدته الحقيقة الكونية، [ ص: 279 ] ومنهم من يظن أنه من وصل إلى مشاهدة هذه الحقيقة سقط عنه الأمر والنهي الشرعيان، ومنهم من قد يتوهم أن وجود الخالق هو المخلوق فيقع في وحدة الوجود، فيكون في أول أمره يقول:
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب
أو قلت رب أنى يكلف
وفي آخر أمره يقول: فالآمر الخالق المخلوق، والآمر المخلوق الخالق، والعلم والعالم هويته وصورته، وهو الموصوف بكل مدح وذم وكل جمال وكل نقص، وأمثال ذلك مما قد عرف من كلام هؤلاء الملحدين الذين يقولون من الكفر ما لم يقله اليهود ولا النصارى ولا عباد الأصنام، ويدعون أن هذا تحقيق وعرفان وتوحيد.
وأصل ذلك عدم الفرق بين ما يحبه ويرضاه وما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان قد قدره وقضاه، فيجعلون المخلوقات متساوية، ثم يسوون بين الخالق والمخلوق، ويجعلونه إياه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ولهذا يفرق بين عباد الله: بين العبد الذي عبد الله بقدرته ومشيئته وربوبيته، وبين العابد الذي عبد الله فعبده وحده لا يشرك به شيئا، وأطاع أمره الشرعي الديني، فالأول كقوله تعالى: إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ ص: 280 ] لقد أحصاهم وعدهم عدا ، والثاني كقوله: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ، وقوله: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ، وقوله: عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ، وقوله: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ، وأنه لما قام عبد الله يدعوه ، وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ، فأوحى إلى عبده ما أوحى .
وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام في الفرق بين الإرادة الكونية والدينية، كقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، وقوله: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ، وبين الأمر الكوني والديني، والإذن الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني، وكذلك القضاء والحكم والكتاب والتحريم وغير ذلك مما يفرق به بين الحقائق الدينية الإيمانية [ ص: 281 ] القرآنية النبوية الشرعية الإلهية الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، والحقائق الكونية الوجودية الخلقية القدرية الملكية.
فإذا عرف هذا مما يحصل لهم من الإيمان والعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه ما يحصل ويستحقون به الثواب في الدنيا والآخرة، وليس بحاصل من مجرد كون الأشياء مخلوقة له، بل إنما يحصل من جهة أمره لما يحبه ويرضاه، وإرساله الرسل بذلك وإنزاله الكتب، ودعوتهم للعباد إلى ذلك، ثم هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم. فتقرب العباد بفعل ما أمرهم من صلاة وصدقة وغير ذلك