الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      ( المسألة الخامسة ) : أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الرسل ، فلا نبي بعده ، وكتابه خاتم الكتب ، فلا كتاب بعده ، فهو محكم أبدا ، وهذه المسألة هي المشار إليها بهذا البيت والذي بعده :


      وكل من من بعده قد ادعى نبوة فكاذب فيما ادعى     فهو ختام الرسل باتفاق
      وأفضل الخلق على الإطلاق

      .

      قال الله - تبارك وتعالى : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ( الأحزاب 40 ) وقال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ( البقرة 143 ) [ ص: 1115 ] ، وقال تعالى : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ( آل عمران 144 ) وقال تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ( النساء 163 ) إلى غير ذلك من الآيات .

      وقال البخاري - رحمه الله تعالى : حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدثني معن ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب . ورواه مسلم وزاد : وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي .

      وله عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي لنا نفسه أسماء ، فقال : أنا محمد ، وأحمد ، والمقفى ، والحاشر ، ونبي التوبة ، ونبي الرحمة .

      وقال البخاري - رحمه الله تعالى : باب خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا سليم ، حدثنا سعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا ، فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يدخلونها يتعجبون ، ويقولون : لولا موضع اللبنة . رواه مسلم ، وزاد : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : فأنا موضع اللبنة ، جئت فختمت الأنبياء . وقال البخاري - رحمه الله تعالى : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال : إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا ، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون : هلا [ ص: 1116 ] وضعت هذه اللبنة ؟ قال - صلى الله عليه وسلم : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين . رواه مسلم من طرق ، وله عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثل النبيين . . . فذكر نحوه . وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه - رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها ، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها ، وجعل الناس يطوفون بالبنيان ، ويعجبون منه ويقولون : لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة .

      ورواه الترمذي ، عن أبي عامر العقدي به ، وقال : حسن صحيح .

      وقال البخاري - رحمه الله تعالى : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك واستخلف عليا ، فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء ؟ قال : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه ليس نبي بعدي . ورواه مسلم من طريق مصعب هذه ، ومن طريق سعيد بن المسيب ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي . قال سعيد : فأحببت أن أشافه بها سعدا ، فلقيت سعدا ، فحدثته بما حدثني به عامر ، فقال : أنا سمعته ، فقلت : أنت سمعته ؟ فوضع إصبعيه على أذنيه ، فقال : نعم ، وإلا سكتا . وتقدم في حديث ذكر الدجال قوله - صلى الله عليه وسلم : إنه يبدأ فيقول إنه نبي ، وأنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي . الحديث . وفي حديث ثوبان الطويل [ ص: 1117 ] عند أبي داود وغيره : وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون ، كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي .

      وللبخاري ومسلم وهذا لفظه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : نحن الآخرون ، ونحن السابقون يوم القيامة ، بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، ثم هذا اليوم الذي كتبه الله علينا - هدانا الله له - فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد .

      وفي رواية : وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق . وفي صحيح البخاري في غير موضع من صحيحه من طرق ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس ، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى ، كرجل استعمل عمالا ، فقال : من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط . فقال : من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط . فقال : من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ قال : ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ، ألا لكم الأجر مرتين . فغصبت اليهود والنصارى ، فقالوا : نحن أكثر عملا وأقل عطاء . قال الله تعالى : هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا : لا . قال : فإنه فضلي أوتيه من شئت .

      ولهما عن أبي حازم قال : قاعدت أبا هريرة - رضي الله عنه - خمسين سنين ، سمعته يحدث ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كانت بنو إسرائيل [ ص: 1118 ] تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلف نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء فيكثرون . قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : فوا ببيعة الأول فالأول ، أعطوهم حقهم ، فإن الله تعالى سائلهم عما استرعاهم .

      وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن الرسالة والنبوة قد انقطعت ، فلا رسول بعدي ولا نبي . قال : فشق ذلك على الناس ، فقال : ولكن المبشرات . قالوا : يا رسول الله ، وما المبشرات ؟ قال : رؤيا الرجل المسلم ، وهي جزء من أجزاء النبوة .

      وللبخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لم يبق من النبوة إلا المبشرات . قالوا : وما المبشرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة .

      وقال مسلم - رحمه الله تعالى : حدثنا يحيى بن أيوب ، وقتيبة بن سعيد ، وعلي بن حجر قالوا : حدثنا إسماعيل ، وهو ابن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون . وروى الإمام أحمد ، عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته .

      وله عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما كالمودع ، فقال : أنا محمد النبي الأمي ثلاثا ، ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه .

      [ ص: 1119 ] وقد وردت عدة أحاديث في صفة خاتم النبوة بين كتفيه آية باهرة ، ودلالة ظاهرة على أنه لا نبي بعده ، لا بأس أن نذكر ما تيسر منها . فروى البخاري ومسلم ، عن السائب عبد الله بن يزيد - رضي الله عنه - قال : ذهبت بي خالتي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن ابن أختي وقع ، فمسح رأسي ، ودعا لي بالبركة ، وتوضأ فشربت من وضوئه ، ثم قمت خلف ظهره ، فنظرت إلى خاتم بين كتفيه مثل زر الحجلة .

      ولمسلم ، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد شمط مقدم رأسه ولحيته ، وكان إذا ادهن لم يتبين ، وإذا شعث رأسه تبين ، وكان كثير شعر اللحية ، فقال رجل : وجهه مثل السيف ، قال : بل كان مثل الشمس والقمر ، وكان مستديرا ، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده ، وفي رواية قال : رأيت خاتما في ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه بيضة حمام .

      وله عن عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكلت معه خبزا ولحما ، أو قال : ثريدا ، قال : فقلت له : استغفر لك النبي - صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، ولك ، ثم تلا هذه الآية واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات . قال : ثم درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عن ناغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل .

      وروى أبو داود الطيالسي ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسولا الله ، أرني الخاتم . فقال : أدخل يدك ، فأدخلت يدي في جربانه ، فجعلت ألمس أنظر إلى الخاتم ، فإذا هو على نغض كتفه مثل البيضة ، فما منعه ذاك أن جعل يدعو لي ، وإن يدي لفي جربانه .

      ورواه النسائي ، وروى الإمام أحمد ، عن أبي رمثة التيمي قال : خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيت برأسه ردع حناء ، ورأيت على كتفه مثل التفاحة ، فقال أبي : إني طبيب ، أفلا أطبها لك ؟ قال : طبيبها الذي خلقها . قال : وقال [ ص: 1120 ] لأبي : هذا ابنك ؟ قال : نعم . قال : أما إنه لا يجني عليك ، ولا تجني عليه .

      وروى البيهقي ، عن سلمان الفارسي قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى رداءه ، وقال : يا سلمان ، انظر إلى ما أمرت به . قال : فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمامة ، وروى يعقوب بن سفيان بإسناده ، عن التنوخي الذي بعثه هرقل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وهو بتبوك الحديث ، وفيه : فحل حبوته عن ظهره ، ثم قال : ههنا امض لما أمرت به . قال : فجلت في ظهره ، فإذا أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف مثل الحجمة الضخمة .

      وروى الإمام أحمد ، عن غياث البكري قال : كنا نجالس أبا سعيد الخدري بالمدينة ، فسألته عن خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان بين كتفيه ، فقال بأصبعه السبابة : هكذا لحم ناشز بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم .

      وقال البخاري - رحمه الله تعالى : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن عبد الله بن أبي حسين ، حدثنا نافع بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول : إن جعل لي محمد من بعده - يعني : الأمر ، تبعته . وقدمها في بشر كثير من قومه ، فأقبل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثابت بن قيس بن شماس ، وفي يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه ، وقال : لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ، ولن تعدو أمر الله فيك ، ولئن أدبرت ليعقرنك الله ، وإني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت ، وهذا ثابت يجيبك عني ، ثم انصرف عنه . قال ابن عباس : فسألت عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم : وإني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت ، فأخبرني أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب [ ص: 1121 ] فأهمني شأنهما ، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما ، فنفختهما فطارا ، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي : أحدهما العنسي ، والآخر مسيلمة .

      حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض ، فوضع في كفي سواران من ذهب ، فكبر علي ، فأوحي إلي أن انفخهما ، فنفختهما فذهبا ، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما : صاحب صنعاء ، وصاحب اليمامة . والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا ، وفيما أشرنا إليه كفاية .

      ( فهو ) محمد - صلى الله عليه وسلم - ( ختام الرسل ) فلا نبي بعده ، والرسالة من باب أولى ، إذ لا يرسل إلا بعد أن يتنبأ ، فالنبوة وحي مطلق مجرد ، فإن أمر بتبليغه فرسالة ، فكل رسول نبي ولا عكس ( باتفاق ) من كل كتاب منزل وكل نبي مرسل وكل مؤمن بالله واليوم الآخر ، ( وأفضل الخلق ) كلهم ( على الاطلاق ) بلا استثناء ، قال الله - تبارك وتعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ( البقرة 253 ) .

      قال أئمة التفسير من الصحابة فمن بعدهم : هو محمد - صلى الله عليه وسلم - وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم ولا فخر . وقد أخذ الله - عز وجل - على جميع الرسل الميثاق في الإيمان به ونصرته ، وبشر به كل نبي قومه ، وبعث إلى الجن والإنس ، والأسود والأحمر كافة ، وأتي في الدنيا من المعجزات ما لم يؤته نبي قبله من انشقاق القمر ، وحنين الجذع إليه ، ونبع الماء من أصابعه ، وتسليم الأشجار والأحجار عليه ، وغير ذلك .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية