الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

263 - وصحح اكتفاؤهم بالواحد جرحا وتعديلا خلاف الشاهد      264 - وصححوا استغناء ذي الشهرة عن
تزكية كمالك نجم السنن      265 - ولابن عبد البر كل من عني
بحمله العلم ولم يوهن      266 - فإنه عدل بقول المصطفى
" يحمل هذا العلم " لكن خولفا

[ ص: 10 ] ( وصحح اكتفاؤهم ) أي : أئمة الأثر فيها ( ب ) قول العدل ( الواحد جرحا وتعديلا ) أي : من جهة الجرح والتعديل ( خلاف ) أي : بخلاف ( الشاهد ) ، فالصحيح عدم الاكتفاء به فيه بدون اثنين ; لأنه إن كان المزكي للراوي ناقلا عن غيره فهو من جملة الأخبار ، أو كان اجتهادا من قبل نفسه فهو بمنزلة الحاكم ، وفي الحالين لا يشترط العدد ، والفرق بينهما ضيق : الأمر في الشهادة ; لكونها في الحقوق الخاصة التي يمكن الترافع فيها ، وهي محل الأغراض بخلاف الرواية ; فإنها في شيء عام للناس غالبا لا ترافع فيه .

ونحوه قول ابن عبد السلام : " الغالب من المسلمين مهابة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، بخلاف شهادة الزور " ، ولأنه قد ينفرد بالحديث واحد ، فلو لم يقبل لفاتت المصلحة ، بخلاف فوات حق واحد في المحاكمات ; ولأن بين الناس إحنا وعداوات تحملهم على شهادة الزور بخلاف الرواية .

والقول الثاني : اشتراط اثنين في الرواية أيضا ، حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم ; لأن التزكية صفة ، فتحتاج في ثبوتها إلى عدلين كالرشد والكفاءة وغيرهما ، وقياسا على الشاهد بالنسبة لما هو المرجح فيها عند الشافعية والمالكية ، بل هو قول محمد بن الحسن ، واختاره الطحاوي ، وإلا فأبو عبيد لا يقبل في التزكية فيها أقل من ثلاثة متمسكا بحديث قبيصة فيمن تحل له المسألة : ( ( حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا فيشهدون له ) ) . قال : وإذا كان هذا في حق الحاجة فغيرها أولى ، ولكن المعتمد الأول ، [ ص: 11 ] والحديث فمحمول على الاستحباب فيمن عرف له مال قبل .

وممن رجح الحكم كذلك في البابين الفخر الرازي ، والسيف الآمدي ، ونقله هو وابن الحاجب عن الأكثرين ، ولا تنافيه الحكاية الماضية للتسوية عن الأكثرين ; لتقييدها هناك بالفقهاء .

وممن اختار التفرقة أيضا الخطيب وغيره ، وكذا اختار القاضي أبو بكر بعد حكاية ما تقدم الاكتفاء بواحد ، لكن في البابين معا ، كما نقل عن أبي حنيفة وأبي يوسف في الشاهد خاصة ، وعبارته : والذي يوجبه القياس وجوب قبول تزكية كل عدل مرضي ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، لشاهد ومخبر ; أي : عارف بما يجب أن يكون عليه العدل ، وما به يحصل الجرح ، كما اقتضاه أول كلامه الذي حكاه الخطيب عنه ، وهو ظاهر ، واستثنى تزكية المرأة في الحكم الذي لا تقبل شهادتها فيه ، كل ذلك بعد حكايته عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم عدم قبول تزكية النساء مطلقا في البابين .

وكذا أشار لتخصيص تزكية العبد بالرواية لقبوله فيها دون الشهادة ، ولكن [ ص: 12 ] التعميم في قبول تزكية كل عدل ; لأنها - كما قال الطحاوي - خبر وليست شهادة ، صرح به أيضا صاحب ( المحصول ) وغيره من تقييد .

وقال النووي في التقريب : يقبل - أي : في الرواية - تعديل العبد والمرأة العارفين ، ولم يحك غيره .

قال الخطيب في الكفاية : الأصل في هذا الباب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك بريرة عن حال عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وجوابها له ، يعني الذي ترجم عليه البخاري في صحيحه : تعديل النساء بعضهن بعضا .

ولا تقبل تزكية الصبي المراهق ، ولا الغلام الضابط جزما ، وإن اختلف في روايتهما ; لأن الغلام وإن كانت حاله ضبط ما سمعه ، والتعبير عنه على وجهه ، فهو غير عارف بأحكام أفعال المكلفين ، وما به منها يكون العدل عدلا ، والفاسق فاسقا ، فذلك إنما يكمل له المكلف ، وأيضا فلكونه غير مكلف لا يؤمن منه تفسيق العدل وتعديل الفاسق ، ولا كذلك المرأة والعبد ، فافترق الأمر فيهما ، قاله الخطيب .

( وصححوا ) كما هو مذهب الشافعي ، وعليه الاعتماد في أصول الفقه ، ومشى عليه الخطيب ، مما تثبت به العدالة أيضا ( استغناء ذي الشهرة ) [ ص: 13 ] ونباهة الذكر بالاستقامة والصدق ، مع البصيرة والفهم ، وهو الاستقامة ( عن تزكية ) صريحة ( كمالك ) ، هو ابن أنس ( نجم السنن ) كما وصفه به إمامنا الشافعي رحمهما الله ، وكشعبة ووكيع وأحمد وابن معين ، ومن جرى مجراهم ، فهؤلاء وأمثالهم كما قال الخطيب - وقد عقد بابا لذلك في كفايته - لا يسأل عن عدالتهم ، وإنما يسأل عن عدالة من كان في عداد المجهولين ، أو أشكل أمره على الطالبين .

وساق بسنده أن الإمام أحمد سئل عن إسحاق بن راهويه ، فقال : مثل إسحاق يسأل عنه ؟ إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين . وأن ابن معين سئل عن أبي عبيد ، فقال : مثلي يسأل عنه ؟ هو يسأل عن الناس . وعن ابن جابر أنه قال : لا يؤخذ العلم إلا ممن شهد له بالطلب ، وفي رواية عن ابن مسهر : إلا عن جليس العالم ; فإن ذلك طلبه .

قال الخطيب : أراد أن من عرفت مجالسته للعلماء أو أخذه عنهم أغنى ظهور ذلك عن أمره عن أن يسأل عن حاله . وعن القاضي أبي بكر بن الباقلاني أنه قال : الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية متى لم يكونا مشهورين بالعدالة والرضى ، وكان أمرهما مشكلا ملتبسا ، ومجوزا فيه العدالة وغيرها .

[ ص: 14 ] قال : والدليل على ذلك أن العلم بظهور سترهما ; أي : المستور من أمرهما ، واشتهار عدالتهما أقوى في النفوس من تعديل واحد أو اثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة في تعديله ، وأغراض داعية لهما إلى وصفه بغير صفته ، وبالرجوع إلى النفوس يعلم أن ظهور ذلك من حاله أقوى في النفس من تزكية المعدل لهما ، فصح بذلك ما قلناه ، قال : ويدل على ذلك أيضا أن نهاية حالة تزكية المعدل أن تبلغ مبلغ ظهور ستره ، وهي لا تبلغ ذلك أبدا ، فإذا ظهر ذلك فما الحاجة إلى التعديل ؟ - انتهى .

ومن هنا لما شهد أبو إبراهيم المزني صاحب الشافعي عند القاضي بكار بن قتيبة ، رحمهم الله ، وقيل له : إنه أبو إبراهيم ، ولم يكن يعرفه قبلها ، فقال : تقام البينة عندي بذلك فقط .

وكذا يثبت الجرح بالاستفاضة أيضا ، وذهب بعضهم إلى أن مما يثبت به العدالة رواية جماعة من الجلة عن الراوي ، وهذه طريقة البزار في مسنده ، وجنح إليها ابن القطان في الكلام على حديث قطع السدر من كتابه : الوهم [ ص: 15 ] والإيهام ، ونحوه قول الذهبي في ترجمة مالك بن الحسير الزيادي من ميزانه .

وقد نقل عن ابن القطان أنه ممن لم يثبت عدالته ، يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة ، قال : وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحدا نص على توثيقهم ، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ، ولم يأت بما ينكر عليه ، أن حديثه صحيح ، لكن قد تعقبه شيخنا بقوله ما نسبه للجمهور : لم يصرح به أحد من أئمة النقد إلا ابن حبان . نعم ، هو حق فيمن كان مشهورا بطلب الحديث والانتساب إليه ، كما قررته في علوم الحديث ، وأغرب منه ما حكاه ابن الصلاح في طبقاته عن ابن عبدان أنه حكى في كتابه ( شرائط الأحكام ) عن بعض أصحابنا أنه لم يعتبر في ناقل الخبر ما يعتبر في الدماء والفروج من التزكية ، بل إذا كان ظاهره الدين والصدق قبل خبره . واستغربه ابن الصلاح ( ولابن عبد البر ) قول فيه توسع أيضا ، وهو ( كل من عني ) بضم أوله ( بحمله العلم ) . زاد الناظم : ( ولم يوهنا ) بتشديد [ ص: 16 ] الهاء المفتوحة ; أي : لم يضعف ( فإنه عدل بقول المصطفى ) صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية