الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولنرجع إلى ما نحن فيه ; ولذا قيل في كل من الجرح والتعديل : إنه لا يقبل إلا مفسرا ، لا سيما وقد استفسر جماعة ممن جرح أو عدل فذكروا ما لا يقتضي واحدا منهما ، كما تقرر في معرفة من تقبل روايته مع فوائد مهمة ، وأن المعتمد قبولهما من العارف بأسبابهما بدون تفسير ، في آخرين غير النسائي من الحفاظ المتقدمين وغيرهم ، أورد [ ص: 363 ] ابن عبد البر في جامع العلم له عنهم أمورا كثيرة ، وحكم بأنه لا يلتفت إليها ، وحمل بعضها على أنها خرجت عن غضب ، وجرح من قالها أو نحو ذلك . ( فربما كان لجرح مخرج ) أي : مخلص صحيح يزول به ، ولكن ( غطى عليه السخط ) وحجب عنه الفكر ( حين يحرج ) بحاء مهملة ثم راء مفتوحة وجيم ، أن يضيق صدره بسبب ناله ; لأن الفلتات من الأنفس لا يدعى العصمة منها ; فإنه ربما حصل غضب لمن هو من أهل التقوى فبدرت منه بادرة لفظ فحبك الشيء يعمي ويصم ، لا أنهم مع جلالتهم ووفور ديانتهم تعمدوا القدح بما يعلمون بطلانه ، حاشاهم ، وكل تقي من ذلك .

ثم إن أكثر ما يكون هذا الداء في المتعاصرين ، وسببه غالبا مما هو في المتأخرين أكثر المنافسة في المراتب ، ولكن قد عقد ابن عبد البر في جامعه بابا لكلام الأقران المتعاصرين بعضهم في بعض ، ورأى أن أهل العلم لا يقبل الجرح فيهم إلا ببيان واضح ، فإن انضم لذلك عداوة فهو أولى بعدم القبول ، ولو كان سبب تلك العداوة الاختلاف في الاعتقاد ; فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب ; وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع ، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلق وعبارة طلقة ، حتى إنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيد الله بن موسى وأساطين الحديث وأركان الرواية ، فهذا إذا عارضه مثله أو أكثر منه فوثق رجلا ممن ضعفه هو قبل التوثيق ، ويلتحق به عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المحدث الحافظ ; فإنه من غلاة الشيعة ، بل نسب إلى الرفض ، فيتأتى في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد ، وكذا كان ابن عقدة شيعيا ، فلا يستغرب منه أن يتعصب لأهل الرفض ; ولذا كانت المخالفة في العقائد أحد الأوجه الخمسة التي تدخل الآفة منها ; فإنها - كما قال ابن دقيق العيد - أوجبت [ ص: 364 ] تكفير الناس بعضهم لبعض ، أو تبديعهم ، وأوجبت عصبية اعتقدوها دينا يتدينون ويتقربون به إلى الله تعالى ، ونشأ من ذلك الطعن بالتكفير أو التبديع ، قال : وهذا موجود كثيرا في الطبقة المتوسطة من المتقدمين ، بل قال شيخنا : إنه موجود كثيرا قديما وحديثا ، ولا ينبغي إطلاق الجرح بذلك ، فقد قدمنا تحقيق الحال في العمل برواية المبتدعة ، وحكينا كلام الشافعي هناك آخر المسألة .

ويلتحق بهذا مما جعله ابن دقيق العيد وجها مستقلا الاختلاف الواقع بين المتصوفة وأصحاب العلوم الظاهرة ، فقد وقع بينهم تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض قال : وهذه غمرة لا يخلص منها إلا العالم الوافي بشواهد الشريعة ، ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع المذهبية ، فإن كثيرا من أحوال المحققين من الصوفية لا يفي بتمييز حقه من باطله علم الفروع ، بل لابد مع ذلك من معرفة القواعد الأصولية ، والتمييز بين الواجب والجائز ، والمستحيل العقلي والمستحيل العادي ، فقد يكون المتميز في الفقه جاهلا بذلك ، حتى يعد المستحيل عادة مستحيلا عقلا ، وهذا المقام خطر شديد ; فإن القادح في المحق من الصوفية معاد لأولياء الله ، وقد قال فيما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم : ( من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ) .

والتارك لإنكار الباطل مما يسمعه عن بعضهم تارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، عاص لله تعالى بذلك ، فإن لم ينكر بقلبه فقد دخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم : ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) . فإذا انضما - أعني الاختلاف بين المتصوفة وأهل علم الظاهر والمخالفة في العقائد - مع الوجهين الماضيين ; وهما الجهل بمراتب العلوم والغرض والهوى ، وانضاف إليها عدم الورع والأخذ بالتوهم والقرائن التي قد تتخلف - كانت الأوجه الخمسة ، التي ذكر ابن دقيق العيد في [ ص: 365 ] ( الاقتراح ) أنها لا تدخل الآفة في هذا الباب منها ، وقال في خامسها : إن من فعل ذلك ، أي : أخذ بالتوهم والقرائن فقد دخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم : ( إياك والظن ; فإن الظن أكذب الحديث ) . قلت : لا سيما وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن احمل أمر أخيك على أحسنه ، ولا تظنن بكلمة خرجت منه سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا . انتهى .

وهذا ضرر عظيم فيما إذا كان الجارح معروفا بالعلم وكان قليل التقوى ، فإن علمه يقتضي أن يجعل أهلا لسماع قوله وجرحه ، فيقع الخلل بسبب قلة ورعه وأخذه بالتوهم ، قال : ولقد رأيت رجلا لا يختلف أهل عصرنا في سماع قوله إن جرح ذكر له إنسان أنه سمع من شيخ ، فقال له : أين سمعت منه ؟ فقال : بمكة أو قريبا من هذا ، وقد كان جاء إلى مصر ، يعني في طريقه للحج ، فأنكر ذلك ، وقال : إنه كان صاحبي ولو جاء إلى مصر لاجتمع بي أو كما قال : فانظر إلى هذا التعليق بهذا الوهم البعيد والخيال الضعيف فيما أنكره ، وقد أشار المصنف إلى حاصلها ، وقال : إنه واضح جلي .

التالي السابق


الخدمات العلمية