الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الندم على فعل الخير.. مكيدة شيطانية

السؤال

فتح علي الله بالمال ففي خلال 5 سنين قسم المال إلى 3 أجزاء، أول جزء أقرضته لشخص كان معي في السكن وكان على خلق وليس بمتدين ولكنه كان يصلي حيث ظلم في قضية وكاد يسجن وكان يحتاج المال لتفادي هذا الأمر وحتى الآن لا يستطيع السداد، والثلث الثاني من المال لأهلي، والثلث الأخير كان لي ولكنه لا يكفي التزماتي ـ بالأخص شراء مسكن ـ فدخل علي الشيطان من نقطتين وهذا ما أريد السؤال عنه: الأمر الأول: هل كان علي أن أسد التزماتي أولا قبل أن أساعده وفي ذلك فقد ظلمت نفسي، علما بأنني في وقتها قد فكرت في هذا الأمر وقلت لنفسي إن المال مال الله وهو أحوج للمال مني؟ الأمر الثاني: إنه الآن عليه دين كبير لي ولكنه يتصرف بسفه في مصروفاته مقارنة بوضعه الحالي وليس بسفيه ولكن بالمقارنة بوضعه الحالي، فيوسوس لي الشيطان أنني أخطأت في اختيار الشخص الذي ساعدته، أجبني ياشيخ، هل ما فعلته كان خطأ وظلمت نفسي وزوجتي معي؟ وهل يضيع أجري من هذا العمل بما في نفسي منه؟ وجزاك الله خيرا يا شيخنا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمساعدتك للمحتاج وتنفيسك للكربة عنه من أعمال البر التي دعا إليها ديننا الحنيف، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ... ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة.

وفي صحيح مسلم والمسند وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر عن معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه....

ومن هذه الفضائل: هذا الحديث العظيم الذي يرغب في قضاء الحاجة ومساعدة الآخرين وينشط المسلم لفعل الخير، فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة - شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ـ ولو شاء أن يمضيه أمضاه ـ ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة ـ حتى يثبتها له ـ أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب: قضاء الحوائج، والطبراني وغيرهما، وحسنه الألباني.

قال المناوي في فيض القدير: أفضل الأعمال: أي من أفضلها أي بعد الفرائض كما ذكره في الحديث المار، والمراد الأعمال التي يفعلها المؤمن مع إخوانه أن تدخل أي إدخالك على أخيك المؤمن أي أخيك في الإيمان وإن لم يكن من النسب، سروراً أي سبباً لانشراح صدره من جهة الدين والدنيا، أو تقضي تؤدي عنه ديناً لزمه أداؤه، لما فيه من تفريج الكرب وإزالة الذل، أو تطعمه ولو خبزاً فما فوقه من نحو اللحم أفضل، وإنما خص الخبز، لعموم تيسر وجوده حتى لا يبقى للمرء عذر في ترك الإفضال على الإخوان، والأفضل إطعامه ما يشتهيه. انتهى.

وقد بينا فضل القرض الحسن وثواب إنظار المعسر في الفتوى رقم: 95600.

وبناء عليه، فما فعلته من مساعدة أخيك وتفريج كربته ليس فيه ظلم لنفسك ولا لعيالك ولم تخطئ حيث توسمت فيه الخير وقصدت وجه الله بما فعلت وستجد ثواب ذلك ـ بإذن الله ـ وكونك دفعت إليه ما أنت بحاجة إليه فإن ذلك من الإيثار المحمود الذي مدح الله أصحابه بقوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ {الحشر:9}.

والإيثار أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه، وضده الشح، فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه، والشحيح حريص على ما ليس بيده، قال الإمام القرطبي رحمه الله: الإيثار هو: تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة والصبر على المشقة.

فلا تندم على ما فعلت من فعل الخير وإن كان ذلك لا يؤثر فيما عملت، فرفض النية والندم على العمل الصالح بعد نهايته لا أثر له، قال ابن القيم في بدائع الفوائد: رفض الأعمال بعد الفراغ منها باطل.. ولا يمكن طرده.. وأصول الشرع تقتضي أنه لا يصح رفض شيء من الأعمال بعد الفراغ منه، وأن نية رفضه وإبطاله لا تؤثر شيئا، فإن الشارع لم يجعل ذلك إليه، ولو صح ذلك لتمكن المكلف من إسقاط جميع أعماله الحسنة والقبيحة في الزمن الماضي، فيقصد إبطال ما مضى من حجه وجهاده وهجرته وزكاته وسائر أعماله الحسنة والقبيحة.. انتهى.

ولذلك، فإن ما يجده المسلم من الندم على فعل الخير.. يعتبر من وساوس الشيطان التي يريد بها أن يحزن المؤمن فيندم على ما قدم وحتى لا يتمادى في فعل الخير وكسب الأجر.. فينبغي عليه مدافعة هذه الخواطر، وحينئذ فإنها لا تضره، وقد قيل: إن الكريم يجود بفعل الخير وربما ندم، وإن البخيل يمتنع من فعل الخير ثم يندم.

لكن ما ذكرته عن صاحبك المدين من عدم الاقتصاد في النفقة والإسراف فيها إسرافا يخل بأداء الديون الواجبة عليه لا يجوز له، فينصح بترك الإسراف والسفه للنهي عنه مطلقا؛ كما في قوله تعالى: وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {الأعراف:31}. وقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا {الفرقان:67}.

ولأن ذلك الإسراف في النفقة يضيع ما عليه من الحقوق ويؤخر أداءها، وقد ذكر العلماء أن المدين الذي تستغرق ديونه ماله لا يجوز له أن يتصدق صدقة التطوع، قال ابن القيم في إعلام الموقعين: تَصَرُّفُ الْمَدِينِ الَّذِي اسْتَغْرَقَتْ الدُّيُونُ مَالَهُ الْمِثَالُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: إنْ اسْتَغْرَقَتْ الدُّيُونُ مَالَهُ لَمْ يَصِحَّ تَبَرُّعُهُ بِمَا يَضُرُّ بِأَرْبَابِ الدُّيُونِ، سَوَاءٌ حَجَرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، أَوْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا. انتهى.

وإذا كان المدين ممنوعا من التبرع والقربة فمن باب أولى منعه من التوسع في المباحات وما هو زائد عن حاجته الأصلية فليحاسب نفسه، لئلا يضيع حق من أحسن إليه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني