الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

المجازاة بحسب الظن بالله، وسبيل السلامة من سوء الظن

السؤال

كنت أدعو الله عز وجل دائما في قيام الليل أن ينجحني هذه السنة في الجامعة وأن يشفيني من مرضي.
لكن للأسف رسبت، وقدر الله وما شاء فعل، الآن بالنسبة لمرضي أكاد أفقد صبري وأصبح كل يومي مضطربا بالوساوس والتفكير؛ لأنه أصابتني عقدة نفسية من الرسوب، فأصبحت أظن أن الله لن يستجيب لي في المرض وسيتركني، وللأسف أتوهم أمورا كثيرة تقع في بالي كلها بسبب رسوبي، وفي عدم استجابة الدعاء للشفاء من مرضي.
وأنا جدا حزين ومحبط من الدعاء بعدما كنت متفائلا، وأصبحت أشك أن الله لن يستجيب دعائي.
وبعض الأحيان أظن وأتوهم أنه سيزيدني بلاء وسيزداد مرضي، وبعض الأحيان أتوهم أنه سيجعلني أفصل من الجامعة، وتارة أوسوس أنه يريد أن يدخلني النار، وللأسف هذه الظنون والوساوس أتتني بعد الرسوب.
وفي دعائي في قيام الليل كنت أدعو بتضرع وخشوع وتفاؤل، الآن دعائي تغير تماما أصبحت محبطا جداجدا.
وكنت محافظا على الصلوات جماعة، وللأسف تركت الصلاة جماعة، وأصبحت أصلي في البيت.
سؤالي هو: هل هذه الظنون والوساوس التي حصرا لا تليق بالله عز وجل؟ هل أنا مؤاخذ عليها؟ علما أنها قد تستقر في قلبي يوما كاملا، لكن سرعان ما أتدارك نفسي وأقول لعله خير، وأظل مثلا هكذا 3 أيام بحالة جيدة، ومن ثم تأتيني مرة أخرى وأحزن يوما كاملا، وتبقى في قلبي وأعيش توهما أن الله سيتركني ومن هذا، لكن سرعان ما أتدارك نفسي وأغير، وهكذا أنا على هذه الحالة.
فأرشدوني هل هذه مجرد وساوس شيطانية؟ أم أنها مني ومن فعلي، وسأحاسب عليها وهي من سوء الظن؟ وهل في هذه الحالة أنا كافر؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإنا نهنئك بالحفاظ على الصلاة والقيام والدعاء، ونسأل الله تعالى ألا يزيغ قلبك بعد إذ هداك وأن يتقبل منك، وأن يثبتك على الحق، ويوفقك للمزيد من فعل أوامره واجتناب نواهيه، والرضى بقدره، وأن يفرج عنك، وأن يسهل أمرك، ويعافيك من البلاء، وأن يصلح حالك، إنه سميع مجيب.

وأما الوساوس التي ذكرت فإنه لا مؤاخذة فيها ما لم تتكلم بها، ولكن الواجب عليك أن تعرض عنها، ولا تسترسل في خطرات الشيطان، وتستعيذ بالله تعالى.

واعلم أن الله يبتلي عباده بالمنع كما يبتليهم بالعطاء، هل يشكرون أم لا؟ وهل يصبرون أم لا؟ كما قال الله تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {الأعراف:168}، وقال: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {الأنبياء:35}، وقال جل من قائل: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ {الفجر:15-16}.

وقد ذكر ابن القيم في مدارج السالكين عند كلامه على الرضى: أن منع الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن المحب عطاء، وابتلاءه إياه عافية، قال سفيان الثوري: منعه عطاء وذلك: أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم وإنما نظر فى خير عبده المؤمن فمنعه اختيارا وحسن نظر...

وعليك بالصبر على المواظبة على الدعاء ساعات الإجابة وعدم الاستعجال، فادع بالاسم الأعظم ولا تعجل ولا تقنط، بل ثق بوعد الله بالاستجابة، فقد قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {البقرة:186}، وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ {غافر:60}.

وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، وما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجب لي فيستحسر ويدع الدعاء.

وفي المسند والسنن عن بريدة قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده؛ لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب.

وأما سوء الظن بالله تعالى فهو محرم فعليك بالتوبة منه وحسن الظن بالله تعالى، وتذكر قدرته وكرمه وصدق وعده بالتعهد لمن دعاه بالاستجابة، فإنه سبحانه وتعالى يعامل العبد بقدر حسن ظن العبد به، كما في الحديث القدسي: أنا عند حسن ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيرا فله، وإن ظن بي شرا فله. رواه أحمد وصححه الأرناؤوط والألباني.

وكما قال عزوجل في الحديث القدسي: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم: يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغِض ما في يده. رواه البخاري ومسلم

وقال القرطبي في (المفهم): قيل: معنى ظن عبدي بي: ظن الإجابة عند الدعاء، وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها، تمسكًا بصادق وعده، ويؤيده قوله في الحديث الآخر: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة".

قال: ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في القيام بما عليه، موقنا بأن الله يقبله، ويغفر له؛ لأنه وعد بذلك، وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد أو ظن أن الله لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فهذا هو اليأس من رحمة الله، وهو من الكبائر. انتهى.

وقال الحافظ في الفتح: (أنا عند ظن عبدي بي): أجازيه بحسب ظنه بي، فإن رجا رحمتي، وظن أني أعفو عنه، وأغفر له، فله ذلك، لأنه لا يرجوه إلا مؤمن علم أن له ربًّا يجازي، وإن يئس من رحمتي، وظن أني أعاقبه وأعذبه، فعليه ذلك، لأنه لا ييأس إلا كافر). اهـ.
ومن أعظم أسباب تحقيق حسن الظن بالله تعالى معرفة أسماء الله وصفاته، والاطلاع على حكمته سبحانه من الخلق، وحكمته في العطاء أو المنع، فعلى سبيل المثال: فمعرفة أن الله سبحانه قادر حكيم فعال لما يريد، كل ذلك يوجب حسن الظن بالله.

يقول ابن القيم: وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفي ما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده. اهـ

ولبيان شروط إجابة الدعاء راجع في ذلك الفتوى رقم: 11571، والفتوى رقم: 71758.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني