الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم الجمع بين الدعاء على الساب والانتصار منه برد سبه بمثله

السؤال

إذا تشاجرت مع شخص، وبدأ يشتمني، ويذكر عيوبي مثلا يقول: اسكتي أنت ونظاراتك، يعني يعيبني لأن عندي ضعفا في النظر.
سؤالي: هل يجوز أن أرد الشتم، وأقول له: اسكت يا مريضا بالكلى، يعني أشتمه بمرضه؟
وهل أبتلى إذا رددت عليه الشتم؛ لأنه هو الذي بدأ، طبعا شيء صعب أن أسكت؛ لأن الناس سيقولون عني أني ضعيفة الشخصية.
أرجوكم بينوا لي: هل يجوز أن أشتمه بمرضه إذا شتمني بمرضي؟ وهل أبتلى؟ وهل يحق لي أن أدعو عليه؛ لأنه هو البادئ، ومثلما ما تعرفون البادئ أظلم؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الشرع قد أذن في رد المرء على سابه بقدر ما سبه، إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله، أو عدوان على غير الساب.

قال ابن تيمية: والقصاص في الأعراض مشروع أيضا: وهو أن الرجل إذا لعن رجلا، أو دعا عليه، فله أن يفعل به كذلك، وكذلك إذا شتمه: بشتمة لا كذب فيها. والعفو أفضل. قال الله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين} {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} وقال النبي صلى الله عليه وسلم:{المستبان: ما قالا، فعلى البادئ منهما، ما لم يعتد المظلوم} . ويسمى هذا الانتصار. والشتيمة التي لا كذب فيها مثل الإخبار عنه بما فيه من القبائح، أو تسميته بالكلب، أو الحمار ونحو ذلك. فأما إن افترى عليه، لم يحل له أن يفتري عليه، ولو كفره، أو فسقه بغير حق، لم يحل له أن يكفره، أو يفسقه بغير حق، ولو لعن أباه، أو قبيلته، أو أهل بلده ونحو ذلك، لم يحل له أن يتعدى على أولئك، فإنهم لم يظلموه.اهـ. من مجموع الفتاوى.

ويظهر من عموم كلامه، أنه لا فرق في جواز الرد على الساب بين أن يكون سبه تعييرا بمرض فيه، أو غير ذلك، وقد جاء في الحديث: وإن امرؤ شتمك، وعيرك بما يعلم فيك، فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه. أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان.

قال الصنعاني: (شتمك) هو الذم (وعيرك) من العار بالمهملة، وهو كل شيء لزم به عيب (فلا تعيّره) شاتمًا له بأمر (هو فيه) نهي للتنزيه، وإلا فهو جائز بدليل: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيهمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] وقوله: (ودعه يكون وباله) إثم الشتم، والتعيير (عليه، وأجره لك) يدل لذلك، وإلا لعلَّله بأنه إثم. اهـ باختصار.

فيتبين مما تقدم: أنه إذا سب شخص آخر، وعيره بعيب فيه -مرضا كان أو غيره- فيجوز له أن يرد عليه بمثل ما فعل، دون زيادة.

وحيث انتصر المظلوم من شاتمه بقدر شتمه إياه، دون بغي وزيادة؛ فإنه لا يعاقب على ذلك.

وأما الدعاء: فالأصل أنه يجوز للمظلوم أن يدعو على من ظلمه، قال سبحانه: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا {النساء:148}.

قال ابن عباس: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله : "إلا من ظلم"، وإن صبر فهو خير له. أخرجه الطبري. ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب. متفق عليه.

فلا حرج على المرء في أن يدعو على من سبه، لكن جواز الجمع بين الدعاء على الساب، والانتصار منه برد سبه بمثله محل نظر، وذلك لأن الدعاء على الظالم لون من الانتصار، فقد أخرج الترمذي عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دعا على من ظلمه فقد انتصر. وضعفه الترمذي.

قال الصنعاني: (من دعا على من ظلمه) أي ظلم (فقد انتصر) لنفسه، فلم يبق له أجر على ظالمه، ولا استحقاق عقوبة منه أخرى. فمن أراد بقاء القصاص، سكت عن ظالمه ولم يدع عليه، وإلا عفا عنه ليكون أجره على الله، فللمظلوم مع ظالمه ثلاث حالات: الانتصاف بالدعاء عليه، أو بالتأخير إلى الآخرة، أو بعفو فيكون أجره على الله، وهذا أحسنها، وأعودها نفعا للمظلوم.اهـ. من التنوير شرح الجامع الصغير.

وبعد هذا: فنوصيك بالصبر على الإساءة، والعفو والصفح عمن أساء إليك، وننقل لك هنا كلاما نفيسا في بيان ما يعين على الصبر على إساءة الناس. قال ابن تيمية: ويعين العبد على هذا الصبر عدة أشياء:

أحدها: أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، حركاتهم وسكناتهم، وإراداتهم، فانظر إلى الذي سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك، تسترح من الهم والغم.

الثاني: أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه بسببها، عن ذمهم، ولومهم، والوقيعة فيهم. الثالث: أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفا وصبر، كما قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين)

الرابع: أن يشهد أنه إذا عفا وأحسن، أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه، ونقائه من الغش، والغل، وطلب الانتقام، وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو، ما يزيد لذته، ومنفعته عاجلا وآجلا، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافا مضاعفة.

الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه، إلا أورثه ذلك ذلا يجده في نفسه، فإذا عفا أعزه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا".

السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالم مذنب، وأن من عفا عن الناس عفا الله عنه، ومن غفر لهم غفر الله له.

السابع: أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام، وطلب المقابلة، ضاع عليه زمانه، وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه ما لا يمكن استدراكه، ولعل هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم، فإذا عفا وصفح، فرغ قلبه، وجسمه لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام.

الثامن: أن انتقامه، واستيفاءه، وانتصاره لنفسه، وانتصاره لها، فإن رسول الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط، فإذا كان هذا خير خلق الله، وأكرمهم على الله لم ينتقم لنفسه، مع أن أذاه أذى الله، ويتعلق به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفس، وأزكاها وأبرها، وأبعدها من كل خلق مذموم، وأحقها بكل خلق جميل، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها، فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها، وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تساوي نفسه عنده أن ينتقم لها، ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها.

العاشر: أن يشهد معية الله معه إذا صبر، ومحبه الله له إذا صبر، ورضاه. ومن كان الله معه، دفع عنه أنواع الأذى والمضرات، ما لا يدفعه عنه أحد من خلقه، قال تعالى: (واصبروا إن الله مع الصابرين )، وقال تعالى: (والله يحب الصابرين ).

الحادي عشر: أن يشهد أن الصبر نصف الإيمان، فلا يبذل من إيمانه جزاء في نصرة نفسه، فإذا صبر فقد أحرز إيمانه، وصانه من النقص، والله يدفع عن الذين آمنوا.

الثاني عشر: أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه، وقهر لها وغلبة لها، فمتى كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه وأسره، وإلقائه في المهالك.

الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولا بد، فالله وكيل من صبر، وأحال ظالمه على الله، ومن انتصر لنفسه، وكله الله إلى نفسه، فكان هو الناصر لها. فأين من ناصره الله خير الناصرين، إلى من ناصره نفسه أعجز الناصرين وأضعفه؟

الرابع عشر: أن صبره على من آذاه، واحتماله له، يوجب رجوع خصمه عن ظلمه، وندامته واعتذاره، ولوم الناس له، فيعود بعد إيذائه له مستحييا منه نادما على ما فعله، بل يصير مواليا له. وهذا معنى قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35)) .

الخامس عشر: ربما كان انتقامه، ومقابلته سببا لزيادة شر خصمه، وقوة نفسه، وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه، كما هو المشاهد. فإذا صبر وعفا، أمن من هذا الضرر.

السادس عشر: أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر، لا بد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها، لا علما ولا إرادة، وربما عجزت عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول ويفعل، فبينما هو مظلوم ينتظر النصر والعز، إذ انقلب ظالما ينتظر المقت والعقوبة.

السابع عشر: أن هذه المظلمة التي ظلمها هي سبب إما لتكفير سيئته، أو رفع درجته، فإذا انتقم ولم يصبر، لم تكن مكفرة لسيئته، ولا رافعة لدرجته. الثامن عشر: أن عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفا، كان صبره وعفوه موجبا لذل عدوه، وخوفه، وخشيته منه، ومن الناس، فإن الناس لا يسكتون عن خصمه، وإن سكت هو، فإذا انتقم، زال ذلك كله. التاسع عشر: أنه إذا عفا عن خصمه، استشعرت نفس خصمه أنه فوقه، وأنه قد ربح عليه، فلا يزال يرى نفسه دونه، وكفى بهذا فضلا وشرفا للعفو.

العشرون: أنه إذا عفا وصفح، كانت هذه حسنة، فتولد له حسنة أخرى، وتلك الأخرى تولد له أخرى، وهلم جرا، فلا تزال حسناته في مزيد، فإن من ثواب الحسنة الحسنة، كما أن من عقاب السيئة السيئة بعدها. وربما كان هذا سببا لنجاته، وسعادته الأبدية، فإذا انتقم وانتصر، زال ذلك. اهـ. باختصار من جامع المسائل.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني