الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون عطف على جملة ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ، فإنها استدلال على وحدانية الله تعالى وعلى أن معبوداتهم غير أهل لأن تعبد . فحكي هنا ما استظهروه من معاذيرهم عند نهوض الحجة عليهم يرومون بها إفحام النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين فيقولون : لو شاء الله ما عبدنا الأصنام ، أي لو أن الله لا يحب أن نعبدها لكان الله صرفنا عن أن نعبدها ، وتوهموا أن هذا قاطع لجدال النبيء صلى الله عليه وسلم لهم لأنهم سمعوا من دينه أن الله هو المتصرف في الحوادث فتأولوه على غير المراد منه . فضمير الغيبة في ما عبدناهم عائد إلى معلوم من المقام ومن ذكر فعل العبادة لأنهم كانوا يعبدون الأصنام وهم الغالب ، وأقوام منهم يعبدون الجن ؛ قال تعالى : بل كانوا يعبدون الجن .

قال ابن مسعود كان نفر من العرب يعبدون الجن ، وأقوام يعبدون الملائكة مثل بني مليح بضم الميم وفتح اللام وبحاء مهملة وهم حي من خزاعة . فضمير جمع [ ص: 185 ] المذكر تغليب وليس عائدا إلى الملائكة لأنهم كانوا يزعمون الملائكة إناثا فلو أرادوا الملائكة لقالوا : ما عبدناها أو : ما عبدناهن .

وهذا هو الوجه في معنى الآية . ومثله مروي عن مجاهد وابن جريج واقتصر عليه الطبري وابن عطية ، ومن المفسرين من جعل معاد الضمير ( الملائكة ) ولعلهم حملهم على ذلك وقوع هذا الكلام عقب حكاية قولهم في الملائكة : إنهم إناث وليس اقتران كلام بكلام بموجب اتحاد محمليهما . وعلى هذا التفسير درج صاحب الكشاف وهو بعيد عن اللفظ لتذكير الضمير كما علمت ، ومن الواقع ؛ لأن العرب لم يعبد منهم الملائكة إلا طوائف قليلة عبدوا الجن والملائكة مع الأصنام وليست هي الديانة العامة للعرب . وهذه المقالة مثارها تخليط العامة والدهماء من عهد الجاهلية بين المشيئة والإرادة . وبين الرضا والمحبة ، فالعرب كانوا يقولون : شاء الله وإن شاء الله ، وقال طرفة :


فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد



فبنوا على ذلك تخليطا بين مشيئة الله بمعنى تعلق إرادته بوقوع شيء ، وبين مشيئته التي قدرها في نظام العالم من إناطة المسببات بأسبابها ، واتصال الآثار بمؤثراتها التي رتبها الله بقدر حين كون العالم ونظمه وأقام له سننا ونواميس لا تخرج عن مدارها إلا إذا أراد الله قلب نظمها لحكمة أخرى .

فمشيئة الله بالمعنى الأول يدل عليها ما أقامه من نظام أحوال العالم وأهله . ومشيئته بالمعنى الثاني تدل عليها شرائعه المبعوثة بها رسله .

وهذا التخليط بين المشيئتين هو مثار خبط أهل الضلالات من الأمم ، ومثار حيرة أهل الجهالة والقصور من المسلمين في معنى القضاء والقدر ومعنى التكليف والخطاب . وقد بينا ذلك عند قوله تعالى : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا في سورة الأنعام .

وهذا القول الصادر منهم ينتظر منه قياس استثنائي أن يقال : لو شاء الله ما [ ص: 186 ] عبدنا الأصنام ، بدليل أن الله هو المتصرف في شئوننا وشئون الخلائق ، لكنا عبدنا الأصنام بدليل المشاهدة فقد شاء الله أن نعبد الأصنام .

وقد أجيبوا عن قولهم بقوله تعالى : ما لهم بذلك من علم أي ليس لهم مستند ولا حجة على قياسهم لأن مقدم القياس الاستثنائي وهو : لو شاء الرحمن ما عبدناهم - مبني على التباس المشيئة التكوينية بالمشيئة التكليفية فكان قياسهم خليا عن العلم وهو اليقين ، فلذلك قال الله ما لهم بذلك أي بقولهم ذلك من علم بل هو من جهالة السفسطة واللبس .

والإشارة إلى الكلام المحكي بقوله : وقالوا لو شاء الرحمن .

وجملة إن هم إلا يخرصون بيان لجملة ما لهم بذلك من علم .

والخرص : التوهم والظن الذي لا حجة فيه ؛ قال تعالى : قتل الخراصون .

التالي السابق


الخدمات العلمية