الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 332 ] ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) هذا بيان لبعض آثار ولاية الشياطين للذين لا يؤمنون ، أي إنهم يطيعونهم في إغوائهم في أقبح الأشياء ولا يشعرون بقبحها .

                          ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) قال ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الجملة : وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله ، الذين جعل الله لهم الشياطين أولياء ، قبيحا من الفعل وهو الفاحشة ، وذلك تعريهم للطواف بالبيت وتجردهم له فعذلوا على ما أتوا من قبيح فعلهم وعوتبوا عليه قالوا : وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون ونقتدي بهم ونستن بسنتهم والله أمرنا به فنحن نتبع أمره فيه اهـ . والفاحشة : كل ما عظم قبحه ، وفسرها هو وغيره هنا بطواف أهل الجاهلية عراة ؛ لأن المسلمين لما كانوا يعذلونهم ويقبحون فعلتهم هذه كانوا يجيبون بهذا الجواب ، ومما رواه في ذلك قول مجاهد : كانوا يطوفون بالبيت عراة يقولون : نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ، فتضع المرأة على قبلها النسعة ( أي القطعة من سيور الجلد ) أو الشيء فتقول :


                          اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله



                          وقد تقدم ذكر هذه الفعلة الفاحشة وما روي من شبهتهم الشيطانية عليها ، وهي أنهم لا يطوفون ببيت ربهم في ثياب عصوه بها وبينا فساد هذا القول .

                          فأما اعتذارهم بالتقليد فقد رده الكتاب العزيز في مواضع تقدم بعضها في سورتي البقرة والمائدة . وقال مفسرو المتكلمين كالزمخشري والبيضاوي والرازي : إنه تعالى لم يجب عن هذه الحجة وهي محض التقليد لما تقرر في العقول من أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة ، فلو كان حقا لزم القول بحقية الأديان المتناقضة ، وهو محال . فلما كان [ ص: 333 ] فساد هذا الطريق ظاهرا لم يذكر الله تعالى الجواب عنه ، هذا تقرير الرازي ، وقوله بفساد التقليد وكونه حجة داحضة في نظر العقول السليمة صحيح . ولكن زعمه أن هذا سبب لعدم الرد غير صحيح ؛ فقد رد تعالى عليهم بمثل قوله : ( أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) ( 2 : 170 ) والصواب أنه استغنى عن الرد الصحيح هنا برد ما اقترن به المتضمن للرد عليه وبيان بطلانه وهو زعمهم أن الله تعالى أمرهم بتلك الفحشاء التي وجدوا عليها آباءهم ، فقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدحضه بقوله لهم : ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) فهذا القول تكذيب لهم من طريقي العقل والنقل ، أما الأول فتقريره أن هذا الفعل لا خلاف بينكم وبيننا في أنه من الفحشاء أي أقبح القبائح ، والله تعالى منزه بكماله المطلق الذي لا شائبة للنقص فيه أن يأمر بالفحشاء ، وإنما الذي يأمر بها هو الشيطان الذي هو مجمع النقائص كما قال تعالى في آية أخرى : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) ( 2 : 268 ) وهذا حجة على من ينكر الحسن والقبح العقلي في الأحكام الشرعية لأجل مخالفة من توسعوا في تحكيم العقل في ذلك ، وأما طريق النقل فهو أن ما يسند إلى الله تعالى من أمر ونهي لا يثبت بمجرد الدعوى ، بل يجب أن يعلم بوحي منه تعالى إلى رسول من عنده ثبتت رسالته بتأييده تعالى له بالآيات البينات فالاستفادة في قوله تعالى : ( أتقولون على الله ما لا تعلمون ) للإنكار المتضمن للتوبيخ ، وللرد على المقلدين فإنهم باتباع آبائهم وأجدادهم وشيوخهم في آرائهم وأعمالهم الدينية غير المسندة إلى الوحي الإلهي يقولون على الله ما لا يعلمون أنه شرعه لعباده .

                          وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم في هذا الطريق النقلي ، وهو من باب السلب والنفي ، توجهت الأنفس إلى معرفة ما يأمر به تعالى من محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والخصال فبينه بطريق الاستئناف . قائلا لرسوله : ( قل أمر ربي بالقسط ) أي العدل والاعتدال في الأمور كلها ، وهو الوسط بين الإفراط والتفريط فيها ، وقد تقدم تفسيره لفظا ومعنى في سورتي النساء والمائدة ، والوسط في اللباس الذي يعبد الله تعالى فيه أن يكون حلالا نظيفا لائقا بحال لابسه في الناس ، لا ثوب شهرة في تفريط التبذل ، ولا في إفراط التطرس . وسيأتي الأمر بأخذ الزينة عند المساجد من هذا السياق وقدم عليه هنا ما يتعلق بفقه العبادة ولبابها ، الدال على جهلهم بها . وهو قوله تعالى : ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين ) أي قل لهم أيها الرسول : أمر ربي بالقسط فأقسطوا وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد - أو وقل لهم : أقيموا إلخ .

                          إقامة الشيء : إعطاؤه حقه وتوفيته شروطه كإقامة الصلاة وإقامة الوزن بالقسط . [ ص: 334 ] والوجه حسي ومعنوي - فقوله تعالى : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) من الأول ، وقوله : ( فأقم وجهك للدين حنيفا 30 : 30 ) من الثاني . والمراد به توجه القلب وصحة القصد ؛ فإن الوجه يطلق على الذات ، وما هنا من الثاني وإن ورد عن بعضهم تفسيره بالأول أيضا ، وجعله بعضهم بمعنى التوجه إلى الكعبة في كل صلاة في كل مسجد أينما كان . والمعنى أعطوا توجهكم إلى الله تعالى عند كل مسجد تعبدونه فيه حقه من صحة النية وحضور القلب وصرف الشواغل ، سواء كانت العبادة طوافا أو صلاة أو ذكرا أو فكرا - وادعوه وحده مخلصين له الدين ، بألا تشوبوا دعاءكم ولا غيره من عبادتكم له بأدنى شائبة من الشرك الأكبر ، وهو التوجه إلى غيره من عباده المكرمين ، كالملائكة والرسل والصالحين ، ولا إلى ما وضع للتذكير بهم من الأصنام والقبور وغيرها - ولا من الشرك الأصغر وهو الرياء وحب إطلاع الناس على عبادتكم والثناء عليكم بها والتنويه بذكركم فيها . وكانوا يتوجهون إلى غيره معه زاعمين أن المذنب لا يليق به أن يقبل على الله وحده ويقيم وجهه له حنيفا ، بل لا بد له أن يتوسل إليه بأحد من عباده الطاهرين المكرمين ليشفع لهم عنده ويقربهم إليه زلفى ، وهذا من وسواس الشيطان ، وشبهتهم فيه كشبهتهم في عدم الطواف في ثياب عصوه فيها ، وجعلهم هذا وذاك من الدين ونسبته إلى الله تعالى افتراء عليه وقول عليه بغير علم مما أوحاه إلى رسله ، وإنما أوحى إليهم ما نطقت به هذه الآية وأمثالها من الآيات الناطقة بالأمر بتجريد التوحيد من كل شائبة ، والإخلاص في العبادة - كما أمر بأخذ الزينة عند كل مسجد وجعل الظاهر عنوانا للباطن في طهارته وحسنه من غير رياء ولا تكلف ، وهو مقتضى تحري القسط والعدل في كل أمر .

                          ( كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ) هذا تذكير بالبعث والجزاء على الأعمال ، ودعوة إلى الإيمان به في إثر بيان أصل الدين ومناط الأمر فيه والنهي الوارد في سياق أصل تكوين البشر ، واستعدادهم للإيمان والكفر والخير والشر ، وما للشيطان في ذلك من إغواء الكافرين الذين يتولونه ، وعدم سلطانه على المؤمنين الذين يتولون الله ورسوله . وهذه الجملة من أبلغ الكلام المعجز ، فإنها دعوى متضمنة للدليل بتشبيه الإعادة بالبدء فهو يقول : كما بدأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته تعودون إليه يوم القيامة - حالة كونكم فريقين - فريقا هداهم في الدنيا ببعثه الرسل ، فاهتدوا بإيمانهم به وإقامة وجوههم له وحده في العبادة ، ودعائه مخلصين له الدين لا يشركون به أحدا ولا شيئا - وفريقا حق عليهم الضلالة لاتباعهم إغواء الشيطان ، وإعراضهم عن طاعة الرحمن ، وكل فريق يموت على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه ، ومعنى حقت عليهم الضلالة : [ ص: 335 ] ثبتت بثبوت أسبابها الكسبية ، لا أنها جعلت غريزة لهم فكانوا مجبورين عليها ، يدل على هذا تعليلها على طريق الاستئناف البياني بقوله تعالى :

                          ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) عاد هنا إلى الكلام عن المشركين بضمير الغائبين بعد انتهاء ما أمر به الرسول من خطاب المحتجين منهم بما يبطل حجتهم التي حكاها عنهم - ومعنى اتخاذهم الشياطين أولياء أنهم أطاعوهم في كل ما يزينونه لهم من الفواحش والمنكرات ، كأنهم ولوهم أمورهم من دون الله الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان ، ويحسبون أنهم مهتدون فيما تلقنهم الشياطين من الشبهات ، كجعل التوجه إلى غير الله والتوسل به إليه في الدعاء وغيره مما يقربهم إليه تعالى زلفى ، وجعل الرب تعالى كالملوك الجاهلين الظالمين ، لا يقبل عبادة عبده المذنب إلا بواسطة بعض المقربين عنده . كالملك الجاهل مع وزرائه وحجابه وأعوانه ، وغير ذلك مما ذكر آنفا من شبهتهم على طوافهم عراة ، وما تقدم في سورة الأنعام ، من تحريم ما حرموا من الحرث والأنعام .

                          وأكثر من ضل من البشر في الاعتقاديات والعمليات يحسبون أنهم مهتدون ، وأقل الكفار الجاحدون للحق كبرا وعنادا كأعداء الرسل في عصورهم ، وحاسديهم على ما آتاهم الله من فضله فكرمهم به عليهم ، كما حسد إبليس آدم واستكبر عليه ، ومنهم فرعون والملأ من أشراف قومه الذين قال تعالى فيهم : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) ( 27 : 14 ) ومنهم كبراء طواغيت قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث والأخنس بن شريق الذين قال تعالى فيهم : ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) ( 6 : 33 ) وأما سائر الناس فضالون بالتقليد واتباع الشهوات الشيطانية ، أو بالنظريات والآراء الباطلة ، وهم الذين قال تعالى فيهم : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) ( 18 : 103 ، 104 ) ولو كان التقليد عذرا مقبولا لكان أكثر كفار الأرض في جميع الأزمنة والأمكنة معذورين ناجين كالمؤمنين .

                          ألم تر أن التقليد قد أضل الألوف التي لا تحصى من المسلمين الذين صدق عليهم الحديث الصحيح " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع " فتركوا هداية الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح ، واتبعوا البدع المستحدثة ، فإذا دعوا إلى الله ورسوله قالوا : قال الشيخ فلان ، وفعل الولي الصالح فلان ، وهؤلاء أعلم وأهدى منا بالسنة والقرآن . وإنما [ ص: 336 ] أمرهم الله أن يتبعوا ما أنزله إليهم ونهاهم أن يتبعوا من دونه أولياء كما تقدم في صدر هذه السورة ، وما أضيع البرهان عند المقلد

                          وأما أهل النظر فمنهم من بلغته دعوة الرسول على وجهها أو على غير وجهها ، ومنهم من لم تبلغه ، وفي كل منهم من يبحث عن الحق ليتبعه ومن لم يبحث .

                          ذهب بعض المتكلمين إلى أن من بذل جهده في النظر والبحث والاستدلال على الحق فاتبع ما ظهر له أنه الحق بحسب ما وصلت إليه طاقته وكان مخالفا في شيء منه لما جاءت به الرسل لا يدخل في مدلول هذه الآية وأمثالها ، بل يكون معذورا عند الله تعالى لقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( 2 : 286 ) . وقد اشترطوا في حجية بلوغ الدعوة كونها على وجه من الصحة والحجة يحرك إلى النظر فيها ، وإلا فليس من شأن أحد من البشر أن يبحث عن كل ما يبلغه من أمر الأديان ولا سيما إذا بلغه بصورة مشوهة تدعو إلى الإعراض عنها ، واتقاء إضاعة الوقت في النظر فيها ، ويزعم كثير من المسلمين أن جميع أهل هذا العصر قد بلغتهم دعوة الإسلام على وجهها ، وما أجهلهم بحال العصر وأهله وبالدعوة وأدلتها ، على أنهم تركوها منذ قرون ولولا ذلك لما جهلوها .

                          قال السيد الآلوسي في تفسير : ( ويحسبون أنهم مهتدون ) عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد ، ولعل الكلام من قبيل " بنو فلان قتلوا فلانا " والأول في مقابلة من هداه الله تعالى ، شامل للمعاند والمخطئ ، والثاني مختص بالثاني ، وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه . واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار ، ومذهب البعض أنه معذور ، ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه ، فحيث يعذر الأول بعد قيام الحجة عليه ، يعذر [ ص: 337 ] الثاني لذلك . ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة . ولله الحجة البالغة والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم - وإنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل - مما لا يقدم عليه إلا مسلم معاند ، أو مستدل بما هو أوهى من بيت العنكبوت . وإنه لأوهن البيوت . وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ ، والظاهر ما قلنا اهـ .

                          هذا وإن المعذور في الخطأ لا يكون عند الله كالمصيب ، وإن الذي يتحرى الحق المرضي عند الله تعالى المنجي في الآخرة ، لا بد أن يعرف بإخلاصه في النظر واجتهاده في الطلب كثيرا من الحق والخير ، ومعرفته حجة عليه ، ومن كان هذا شأنه كان أجدر الناس بقبول دعوة الرسل إذ بلغته على وجهها ؛ لأنه أحق بها وأهلها ، فإن لم يقبلها كان في نظره على هوى . ويتفاوت هؤلاء المجتهدون المخطئون بتفاوت حظوظهم من معرفة الحق واتباعه ، ومعرفة الخير والعمل به واجتناب ضده ، إذ بذلك تتزكى الأنفس ، والمدار في الآخرة على تزكيتها وقد بينا هذا في موضع آخر من التفسير بما هو أوسع مما هنا . والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية