الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 89 ] ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )

                          ادعى ( الجلال ) أن هذه الآية نزلت للرد على النصارى الذين يولون وجوههم في صلاتهم قبل المشرق ، واليهود الذين يولونها قبل بيت المقدس ، وهذا ادعاء لم يثبت ، والصحيح قريب منه ، وهو أن أهل الكتاب أكبروا أمر تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، كما تقدم في آيات التحويل وحكمه ، وطال خوضهم فيها حتى شغلوا المسلمين بها ، وغلا كل فريق في التمسك بما هو عليه وتنقيص مقابله كما هو شأن البشر في كل خلاف يثير الجدل والنزاع ، فكان أهل الكتاب يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا تقبل عند الله تعالى ، ولا يكون صاحبها على دين الأنبياء ، والمسلمون يرون أن الصلاة إلى المسجد الحرام هي كل شيء ; لأنه قبلة إبراهيم وأول بيت وضع لعبادة الله تعالى وحده ، فأراد الله تعالى أن يبين للناس كافة أن مجرد تولية الوجه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين ; ذلك أن استقبال الجهة المعينة إنما شرع ; لأجل تذكير المصلي بالإعراض عن كل ما سوى الله تعالى في صلاته ، والإقبال على مناجاته ودعائه وحده ، وليكون شعارا لاجتماع الأمة ، فتولية الوجه وسيلة للتذكير بتولية القلب وليس ركنا من العبادة بنفسه ، وأن يبين لهم أصول البر ومقاصد الدين فقال :

                          ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) قرأ حمزة وحفص بنصب البر ، والباقون برفعه ، وكلاهما ظاهر ، والبر - بكسر الباء - لغة : التوسع في الخير ، مشتق من البر بالفتح وهو مقابل البحر في تصور سعته كما قال الراغب ، وشرعا : ما يتقرب به إلى الله تعالى من الإيمان والأخلاق والأعمال الصالحة ، وتوجيه الوجوه إلى المشرق أو المغرب ليس هو [ ص: 90 ] البر ولا منه ، بل ليس في نفسه عملا صالحا كما تقدم شرحه في آيات تحويل القبلة وأحلنا فيه على هذه الآية التي بين الله فيها مجامع البر ( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) قرأ الجمهور ( لكن ) بالتشديد ، ونافع وابن عامر بالتخفيف ; أي : ولكن جملة البر هو من آمن بالله إلخ ، وفيه الإخبار عن المعنى بالذات ، وهو معهود في الكلام العربي الفصيح ، والقرآن جار على الأساليب العربية الفصحى لا على فلسفة النحاة وقوانينهم الصناعية ، وبلاغة هذه الأساليب إنما هي في إيصال المعاني المقصودة إلى الذهن على أجلى وجه يريده المتكلم وأحسن تأثير يقصده ، ومثل هذا التعبير لا يزال مألوفا عند أهل العربية على فساد ألسنتهم في اللغة ، يقولون : ليس الكرم أن تدعو الأغنياء والأصدقاء إلى طعامك ولكن الكرم من يعطي الفقراء العاجزين عن الكسب ، فالكلام مفهوم بدون أن نقول إن معناه : ولكن ذا الكرم من يعطي ، أو لكن الكرم عطاء من يعطي . وإنما نحن في حاجة إلى بيان النكتة في اختيار ذلك على قول : ولكن البر هو الإيمان بالله إلخ ، وهذه النكتة مفهومة من العبارة ; فإنها تمثل لك المعنى في نفس الموصوف به فتفيدك أن البر هو الإيمان وما يتبعه من الأعمال باعتبار اتحادهما ، وتلبس المؤمن البار بهما معا ، من حيث إن الإيمان باعث على الأعمال ، وهي منبعثة عنه وأثر له تستمد منه وتمده وتغذيه ; أي : أنها تمثل لك المعنى في الشخص ، أو الشخص عاملا بالبر ، وهذا أبلغ في النفس هنا من إسناد المعنى إلى المعنى ، ومن إسناد الذات إلى الذات كما هو مذوق ومفهوم .

                          ابتدأ بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ; لأنه أساس كل بر ومبدأ كل خير ، ولا يكون الإيمان أصلا للبر إلا إذا كان متمكنا من النفس بالبرهان ، مصحوبا بالخضوع والإذعان ، فمن نشأ بين قوم وسمع منهم اسم الله في حلفهم واسم الآخرة في حوارهم ، وقبل منهم بالتسليم أن له إلها ، وأن هناك يوما آخر يسمى يوم القيامة ، وأن أهل دينه هم خير من أهل سائر الأديان ، فإن ذلك لا يكون باعثا له على البر وإن زادت معارفه بهذه الألفاظ المسلمة ; فحفظ الصفات العشرين التي حدد بعض المتكلمين بها ما يجب إثباته لله تعالى عقلا ، وأضدادها التي تستحيل عليه عقلا ، وإن حفظ العقيدة السنوسية المسماة بأم البراهين أيضا . ولقد كان أهل الكتاب الذين تبين لهم الآية خطأهم في فهم مقاصد الدين يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ولكنهم كانوا بمعزل عن الإذعان ، والقيام بحقوق هذا الإيمان من الأعمال والأوصاف المذكورة في الآية .

                          الإيمان المطلوب : معرفة حقيقة تملك العقل بالبرهان ، والنفس بالإذعان حتى يكون الله ورسوله أحب إلى المؤمن من كل شيء ، ويؤثر أمرهما على كل شيء ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) [ ص: 91 ] ( 9 : 24 ) وإيمان التقليد قد يفضل صاحبه حب كل واحد من هذه الأمور على حب الله ورسوله .

                          الإيمان المطلوب معرفة تطمئن بها القلوب وتحيا بها النفوس وتخنس معها الوساوس ، وتبعد بها عن النفس الهواجس ، فلا تبطر صاحبها النعمة ، ولا تؤيسه النقمة ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ( 13 : 28 ) ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) ( 57 : 23 ) وإيمان التقليد لا يفتأ صاحبه مضطرب القلب ، ميت النفس ، إذا مسه الخير فهو فرح فخور ، وإذا مسه الشر فهو يئوس كفور .

                          الإيمان المطلوب : معرفة تتمثل للمؤمن إذا عرضت له دواعي الشر وأسباب المعاصي فتحول دونها ، فإذا نسي فأصاب الذنب بادر إلى التوبة والإنابة . فالمؤمنون هم الذين وصفوا بقوله تعالى : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) ( 3 : 135 ) وهم ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) ( 8 : 2 ) وإيمان التقليد يصر صاحبه على العصيان ، ويقترف الفواحش عامدا عالما لا يستحي من الله ولا يوجل قلبه إذا ذكره ، ولا يخافه إذا عصاه .

                          الإيمان المطلوب : هو الذي إذا علم صاحبه بأن الإيمان أصيب بمصيبة كانت مصيبته في دينه أشد عليه من المصيبة في نفسه وماله وولده ، وكان انبعاثه إلى تلافيها أعظم من انبعاثه إلى دفع الأذى عن حقيقته ، وجلب الرزق إلى نفسه وأهله وعشيرته ، وإيمان المقلد لا غيرة معه على الدين ولا على الإيمان ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ) ( 24 : 48 ، 49 ) الآيات .

                          يذكر القرآن الإيمان بالله واليوم الآخر كثيرا ، وإنما المراد به ما له مثل هذه الآثار التي شرحها في آيات كثيرة ، من أجمعها هذه الآية التي نفسرها الآن ، ولكن أهل التقليد الذين لا أثر للإيمان في قلوبهم ولا في أعمالهم إلا ما جرت به عادة قومهم من الإتيان ببعض الرسوم يئولون كل هذه الآيات بجعلهم الإيمان قسمين : قسما كاملا ، وهو الذي يصف القرآن أهله بما يصفهم به ، وقسما ناقصا ، وهو إيمانهم الذي يجامع ما وصف الله تعالى به الكافرين والمنافقين ، ويرون أن الإيمان الناقص كاف لنيل سعادة الآخرة ولا سيما إذا صحبه بعض الرسوم الدينية ، ولكن الله تعالى يرشدنا في مثل هذه الآية إلى أن الرسوم ليست من البر في شيء وإنما البر هو الإيمان وما يظهر من آثاره في النفس والعمل كما ترى في الآية ، وأساس ذلك الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين .

                          فالإيمان بالله يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة [ ص: 92 ] الدينية ، وهي دعوى القداسة والوساطة عند الله ، ودعوى التشريع والقول على الله بدون إذن الله ، أو السلطة الدنيوية وهي سلطة الملك والاستبداد ، فإن العبودية لغير الله تعالى تهبط بالبشر إلى دركة الحيوان المسخر أو الزرع المستنبت ، والإيمان باليوم الآخر وبالملائكة يعلم الإنسان أن له حياة في عالم غيبي أعلى من هذا العالم ، فلا يرضى لنفسه أن يكون سعيه وعمله لأجل خدمة هذا الجسد خاصة ; لأن ذلك يجعله لا يبالي إلا بالأمور البهيمية ، ولا يرضى لنفسه بالأولى أن يكون عبدا ذليلا لبشر مثله للقب ديني أو دنيوي وقد أعزه الله بالإيمان ، وإنما أئمة الدين عنده مبلغون لما شرع الله ، وأئمة الدنيا منفذون لأحكام الله ، وإنما الخضوع الديني لله ولشرعه لا لشخوصهم وألقابهم .

                          ثم إن الإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي ; لأن ملك الوحي روح عاقل عالم يفيض العلم بإذن الله على روح النبي بما هو موضوع الدين ، ولذلك قدم ذكر الملائكة على ذكر الكتاب والنبيين ، فهم الذين يؤتون النبيين الكتاب ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ) ( 97 : 4 ) ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) ( 26 : 193 - 195 ) فيلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة وإنكار الأرواح ، وذلك يستلزم إنكار اليوم الآخر ، ومن أنكر اليوم الآخر يكون أكبر همه لذات الدنيا وشهواتها وحظوظها ، وذلك أصل لشقاء الدنيا قبل شقاء الآخرة . والملائكة : خلق روحاني عاقل قائم بنفسه ، وهم من عالم الغيب فلا نبحث عن حقيقتهم - كما تقدم غير مرة .

                          واختير لفظ الكتاب على الكتب للإيماء إلى أن كلا من اليهود والنصارى لو صح إيمانهم بكتابهم وأذعنوا له لكان في ذلك هداية لهم ، وإن جهلوا وحدة الدين فلم يعرفوا حقية جميع الكتب الإلهية ، على أن المقصود لازمه وهو أنهم لم يؤمنوا حق الإيمان بكتابهم إذ لا يعلمون بما يرشد إليه ، ولو كان إيمانهم صحيحا لقارنه الإذعان الباعث على العمل بقدر الإمكان ، فإن كثيرا من المؤمنين بالتسليم والتقليد كانوا كمن نزل فيهم ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) ( 49 : 14 ، 15 ) فهذا الإيمان الذي حصر الله الصدق في أصحابه كان قد فقد من أكثر أهل الكتاب كما هو حال مجموع المسلمين في هذا العصر ، فإن الذي تصدق عليه هذه الأوصاف صار نادرا جدا ولذلك حرم المسلمون ما وعد الله المؤمنين من العزة والنصر ، والاستخلاف في الأرض ، ولن يعود لهم شيء من ذلك حتى يعودوا إلى التخلق بما ميز الله به المؤمنين من النعوت والأوصاف ، فالإيمان بالكتاب [ ص: 93 ] يستلزم العمل به ، فإن المؤمن الموقن بأن هذا الشيء قبيح ضار لا تتوجه إرادته إلى إتيانه ، والمؤمن الموقن بأن هذا الشيء حسن نافع لا بد أن تتوجه إليه نفسه عند عدم المانع .

                          فما بال مدعي الإيمان بالكتاب قد أعرضوا عن امتثال أمره ونهيه حتى صاروا يعدون حفظه وقراءته من موانع الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس ، فكان من قوانينهم أن حافظ القرآن لا يطالب بتعلم فنون الحرب والجهاد ; لأنه حافظ ، وصار حملة الكتاب لا يطالبون ببذل شيء من مالهم في سبيل الله ، حتى إذا ما طولب أحدهم ببذل شيء لإعانة المنكوبين أو لبناء مسجد ونحو ذلك اعتذر بأنه من العلماء أو الحفاظ لكتاب الله تعالى ، بخل القراء والمتفقهة بفضل الله تعالى فجازاهم الله تعالى على بخلهم ، ووفاهم ما يستحقون على سوء ظنهم بربهم ، حتى صاروا في الغالب أذل الناس ; لأنهم عالة على جميع الناس .

                          والإيمان بالنبيين يقتضي الاهتداء بهديهم ، والتخلق بأخلاقهم ، والتأدب بآدابهم ، ويتوقف هذا على معرفة سيرتهم والعلم بسنتهم . وأبعد الناس عن الإيمان بهم من رغبوا عن معرفة ما ذكر والاهتداء به ، ولا عذر بما يزعمون من الاستغناء عن السنة بالاقتداء بالأئمة والفقهاء ; فإنه لا معنى للاقتداء بشخص إلا الاستقامة على طريقته ، وإنما طريقة الأئمة المهتدين البحث عن السنة وتقديمها بعد كتاب الله تعالى على كل هداية وإرشاد ، ولا يغني عن كتاب الله وسنة رسوله شيء أبدا ، فإن الله يقول : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) ( 33 : 21 ) فمن استغنى عن التأسي بالرسول فقد استغنى عن الإيمان بالله واليوم الآخر ، إذ لا ينفعه هذا الإيمان إلا بهذا التأسي ، على أن الاقتداء بالأئمة يقضي على صاحبه بأن يعرف سيرتهم وطريقة أخذهم عن ربهم ونبيهم وأصول استدلالهم ، وهؤلاء المقلدون لا يعرفون ; بل يندر أن يعرف أحد منهم كلام من يدعي اتباعه وتقليده ، بل جعلوا بينهم وبين أئمتهم عدة وسائط من المقلدين فهم يقلدونهم دونه ، بناء على أنهم أعلم منهم بمراده ، كما أنه أعلم بمراد الله ورسوله .

                          وهناك قوم غشيهم الجهل فغشهم بأنهم من أشد الناس إيمانا بالرسول وحبا له بما يصيحون به في قراءة كتب الصلاة عليه كالدلائل وأمثالها ، أو المدائح الشعرية ، وهم أجهل الناس بأخلاقه العظيمة ، وسنته السنية ، وسيرته الشريفة ، وأشدهم نفورا عن التأسي به إذا دعوا إليه ، أو نهوا عن البدع في دينه والزيادة في شريعته ، وأمثال هؤلاء من الذين ورد الحديث في الصحيحين وغيرهما بأنهم يردون عليه الحوض يوم القيامة فيذادون ; أي : يطردون دونه فيقول : ( ( أمتي ) ) فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فيقول : ( ( سحقا سحقا لمن بدل بعدي ) )

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية