الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الوظيفة السابعة التسليم لأهل المعرفة ) : وبيانه أنه يجب على العامي أن يعتقد أن ما انطوى عنه من معاني هذه الظواهر وأسرارها ليس منطويا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصديق وعن أكابر الصحابة وعن الأولياء والعلماء الراسخين ، وأنه إنما انطوى عنه لعجزه وقصور معرفته ، فلا ينبغي أن يقيس [ ص: 188 ] بنفسه غيره ولا تقاس الملائكة بالحدادين ، وليس ما تخلو عنه مخادع العجائز يلزم منه أن تخلو عنه خزائن الملوك ، فقد خلق الناس أشتاتا ومتفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر فانظر إلى تفاوتها وتباعد ما بينهما صورة ولونا وخاصية ونفاسة ، فكذلك القلوب معادن لسائر جواهر المعارف فبعضها معدن للنبوة والولاية والعلم ومعرفة الله - تعالى - ، وبعضها معدن للشهوات البهيمية والأخلاق الشيطانية ، بل ترى الناس يتفاوتون في الحرف والصناعات ، فقد يقدر الواحد بخفة يده ، وحذاقة صناعته على أمور لا يطمع الآخر في بلوغ أوائلها فضلا عن غايتها ، ولو اشتغل بتعلمها جميع عمره فكذلك معرفة الله - تعالى - ، بل كما ينقسم الناس إلى جبان عاجز لا يطيق النظر إلى التطام أمواج البحر وإن كان على ساحله ، وإلى من يطيق ذلك ولكن لا يمكنه الخوض في أطرافه وإن كان قائما في الماء على رجله ، وإلى من يطيق ذلك لكن لا يطيق رفع الرجل عن الأرض اعتمادا على السباحة ، وإلى من يطيق السباحة إلى حد قريب من الشط لكن لا يطيق خوض البحر إلى لجته والمواضع المغرقة المخطرة ، وإلى من يطيق ذلك لكن لا يطيق الغوص في عمق البحر إلى مستقره الذي فيه نفائسه وجواهره ، فهكذا مثال بحر المعرفة وتفاوت الناس فيه مثله ( حذو القذة بالقذة من غير فرق ) ( فإن قيل ) فالعارفون محيطون بكمال معرفة الله - سبحانه - حتى لا ينطوي عنهم شيء قلنا : هيهات ، فقد بينا بالبرهان القطعي في كتاب ( المقصد الأسنى في معاني أسماء الله الحسنى ) أنه لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله ، وأن الخلائق وإن اتسعت معرفتهم وغزر علمهم - فإذا أضيف ذلك إلى علم الله - سبحانه - فما أوتوا من العلم إلا قليلا ، لكن ينبغي أن يعلم أن الحضرة الإلهية محيطة بكل ما في الوجود ، إذ ليس في الوجود إلا الله وأفعاله ، فالكل من الحضرة الإلهية كما أن جميع أرباب الولايات في المعسكر حتى الحراس هم من المعسكر ، فهم من جملة الحضرة السلطانية ، وأنت لا تفهم الحضرة الإلهية إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية ، فاعلم أن كل ما في الوجود داخل في الحضرة الإلهية ، ولكن كما أن السلطان له في مملكته قصر خاص وفي فناء قصره ميدان واسع ، ولذلك الميدان عتبة يجتمع عليها جميع الرعايا ولا يمكنون من مجاوزة العتبة ولا إلى طرف الميدان ثم يؤذن لخواص المملكة في مجاوزة العتبة ، ودخول الميدان والجلوس فيه على تفاوت في القرب والبعد بحسب مناصبهم ، وربما لم يطرق إلى القصر الخاص إلا الوزير وحده ، ثم إن الملك يطلع الوزير من أسرار ملكه على ما يريد ، ويستأثر عنه بأمور لا يطلعه عليها فكذلك فافهم على هذا المثال تفاوت الخلق في القرب والبعد من الحضرة الإلهية ، فالعتبة التي هي آخر الميدان موقف جميع العوام ومردهم لا سبيل لهم إلى مجاوزتها ، فإن جاوزوا حدهم استوجبوا الزجر والتنكيل ، وأما العارفون فقد جاوزوا العتبة وانسرحوا في الميدان ، ولهم فيه جولان على حدود مختلفة في القرب والبعد ، وتفاوت ما بينهم [ ص: 189 ] كثير ، وإن اشتركوا في مجاوزة العتبة وتقدموا على العوام المفترشين ، وأما حظيرة القدس في صدر الميدان فهي أعلى من أن تطأها أقدام العارفين ، وأرفع من أن تمتد إليها أبصار الناظرين ، بل لا يلمح ذلك الجناب الرفيع صغير أو كبير إلا غض من الدهشة والحيرة طرفه فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير ; فهذا ما يجب على العامي أن يؤمن به جملة وإن لم يحط به تفصيلا ، فهذه هي الوظائف السبع الواجبة على عوام الخلق في هذه الأخبار التي سألت عنها . وهي حقيقة مذهب السلف ، وأما الآن فنشتغل بإقامة الدليل على أن الحق هو مذهب السلف . اهـ .

                          أقول : ثم إن الغزالي أورد بعد هذا فصلا في الاحتجاج على أن مذهب السلف هو الحق ، وقد علمت صفوة المذهب مما سلف . ونعود إلى تفسير باقي الآيات .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية