الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور

                          [ ص: 45 ] تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق أي بالأمر الثابت الحق الذي لا مجال فيه للشكوك والشبهات ، ولا للاحتمالات والتأويلات ، فلا عذر لأمتك إذا اتبعت سنن من قبلها فتفرقت في الدين وذهب فيه مذاهب وصارت شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [ 30 : 32 ] ، وبخلاف الآخرين مستمسكون ، فما أمروا في هذه الآيات بما أمروا به من الاعتصام ووعدوا عليه بالفلاح العظيم ، ولا نهوا عنه من التفرق والاختلاف وأوعدوا عليه بالعذاب الأليم إلا ليكونوا أمة واحدة متحدة في الدين متفقة في المقاصد ، يعذر بعضهم بعضا إذا فهم غير ما فهم مع المحافظة على ما لا تختلف فيه الأفهام ، كوجوب الاتحاد والاعتصام ، وتوحيد الله وتقواه ، واجتناب الفواحش والمنكرات وما الله يريد ظلما للعالمين فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ، وإنما يريد به هدايتهم إلى ما تكمل به فطرتهم ويتم به نظام اجتماعهم ، فإذا هم فسقوا عن أمره وحل بهم البلاء فإنما يكونون هم الظالمين لأنفسهم بتفرقهم واختلافهم ، وكذا بغير ذلك من الذنوب الاجتماعية . فالكلام في الأمم وعقوبتها ، ولا يمكن أن يحل بها بلاء إلا بذنب فشا فيها فزحزحها عن صراط الله الذي بينه في هذه الآيات وغيرها وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 : 102 ] .

                          ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور فهو مالك العباد والمتصرف في شئونهم وإلى سننه الحكيمة ترجع أمورهم ولكل سنة منها غاية تنتهي إليها لا تبديل لها ولا تحويل ، فلا يطمع أهل التفرق والخلاف بالوصول إلى غاية أهل الوحدة والاتفاق ، فهذه الآية وردت كالدليل على ما قبلها . ووجه الدلالة فيها على ما جرينا عليه في تفسير ما قبلها ظاهر ، فإننا بينا أن المراد بالظلم المنفي هو الظلم بالتشريع ; لأن الكلام في تلك الآيات وما فيها من الأحكام فهو على حد قوله في أحكام الصيام : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ 2 : 185 ] وقوله بعد الأمر بالوضوء والغسل : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج [ 5 : 6 ] إلخ . والأمر ظاهر لا مجال فيه للخلاف وكثرة الآراء لولا المذاهب التي وضعت أصولها وقواعدها ثم نظر أصحابها في القرآن يلتمسون تأييدها به وحمله عليها . فقد قالت المعتزلة : إن الظلم في الآية جاء نكرة في سياق النفي فهو عام ، والمعنى أنه لا يريد الظلم مطلقا من أفعاله ولا من أفعال عباده ، وما لا يريده لا يقع منه حتما ، وقد ثبت في العقل والنقل أن من أفعال العباد ما هو ظلم ، فتعين أن تكون أفعالهم منهم لا منه ، ووجهوا الآية الثانية على إثبات هذا . وقالت الأشعرية : إن وقوع الظلم منه - تعالى - محال ; لأنه عبارة عن تصرف الإنسان في ملك غيره وليس لغير الله ملك فيكون ظالما بتصرفه فيه ; ولذلك بين بعد نفي إرادة الظلم أن له ما في السماوات [ ص: 46 ] والأرض . فهم يقولون : إنه لو عذب الأتقياء الصالحين وأثاب الفجار المفسدين لم يكن ذلك منه ظلما بل عدلا ; لأنه تصرف في ملكه .

                          ونحن نقول - أولا : إن الآيتين في واد وهذه المسائل الكلامية في واد آخر ، وثانيا : إن الظلم محال عليه - تعالى - لا لأن الظلم عبارة عن تصرف المتصرف في ملك غيره وأن تصرفه في ملكه لا يمكن أن يكون ظلما فإن هذا غير صحيح . وإنما يستحيل عليه الظلم ; لأنه ينافي الحكمة والكمال في النظام وفي التشريع ، ومن حمل عبيده أو دوابه ما لا تطيق يقال : إنه قد ظلمها ، بل قالوا فيمن حفر الأرض ولم تكن موضعا للحفر : إنه ظلمها وسموها الأرض المظلومة وسموا التراب الذي يخرج منه المظلوم ، ومن نقص امرأ حقه فقد ظلمه قال - تعالى - : كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا [ 18 : 33 ] ولعل هذا هو الأصل في معنى الظلم .

                          وقال الراغب : " الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه " فالظلم الذي ينفيه - تعالى - عن نفسه في الأحكام هو ما ينافي مصلحة العباد وهدايتهم لسعادة الدنيا والآخرة ، وفي الخلق ما ينافي النظام والإحكام .

                          ومن مباحث اللفظ والنظم في الآيات أنه جعل النشر في آية يوم تبيض وجوه إلخ . على غير ترتيب اللف إذ ذكر في اللف الابيضاض قبل الاسوداد ، وذكر في النشر حكم من اسودت وجوههم قبل حكم من ابيضت وجوههم ، وليس اللف والنشر يسمونه المرتب أبلغ مما يسمونه المشوش ، وإنما يختلف ذلك باختلاف الكلام فلا يرجح أحدهما على الآخر إلا بمرجح ، وقد قيل : إن نكتة الترجيح هنا جعل مطلع الكلام ومقطعه في بيان حال المؤمنين وجزائهم فوافق ذلك استحسان البلغاء جعلهما مما يسر ويشرح الصدر ، وقيل : إن نكتة ذلك بيان أن المقصود من الخلق الرحمة دون العذاب ; ولذلك بدأ بذكر أهل الرحمة وختم بذكر جزائهم وأدمج ذكر الآخرين في الأثناء . والقول الأول ترجيح بحسب اللفظ والثاني ترجيح بحسب المعنى ، ومما يقوي هذا أنه - تعالى - ذكر أن أهل الرحمة خالدون فيها ولم يذكر أن أهل العذاب خالدون فيه . نبه على هذا المعنى الرازي ، وبين أنه - تعالى - أضاف الرحمة إلى نفسه دون العذاب ، وذكر علة العذاب وسببه وهو بما كنتم تكفرون ثم ذكر أنه لا يريد ظلما للعالمين قال : " وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب ، وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب " فيا ويل المتفرقين المختلفين المتعادين في دين الرحمة الذي يأخذ بحجزهم أن يقتحموا في العذاب وهم يتهافتون عليه بجهلهم وسوء اختيارهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية