الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم رد الشيء صرفه وإرجاعه وإعادته ، وفي الرد هنا وفي قوله السابق : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، معنى التفويض : أي ولو أرجعوا هذا الأمر العام الذي خاضوا فيه وأذاعوا به ، وفوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، أي أهل الرأي والمعرفة بمثله من الأمور العامة والقدرة على الفصل فيها ، وهم أهل الحل والعقد منهم الذين تثق بهم الأمة في سياستها وإدارة أمورها لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، أي : لعلم ذلك الأمر الذين يستخرجونه ويظهرون مخبأه منهم .

                          الاستنباط : استخراج ما كان مستترا عن إبصار العيون عن معارف القلوب - كما قال ابن جرير ، وأصله استخراج النبط من البئر وهو الماء أول ما يخرج ، وفي المستنبطين وجهان :

                          أحدهما : أنهم الرسول وبعض أولي الأمر ، فالمعنى لو أن أولئك المذيعين ردوا ذلك الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عنده وعند بعض أولي الأمر ، وهم الذين يستنبطون مثله ويستخرجون خفاياه بدقة نظرهم ، فهو إذا من الأمور التي لا يكتنه سرها كل فرد من أفراد أولي الأمر ، وإنما يدرك غوره بعضهم لأن لكل طائفة منهم استعدادا للإحاطة ببعض المسائل المتعلقة بسياسة الأمة وإدارتها دون بعض ، فهذا يرجح رأيه في المسائل الحربية ، وهذا يرجح رأيه في المسائل المالية ، وهذا يرجح رأيه في المسائل القضائية ، وكل المسائل تكون شورى بينهم ، فإذا كان مثل هذا لا يستنبطه إلا بعض أولي الأمر دون بعض ، فكيف يصح أن يجعل شرعا بين العامة يذيعون به ؟

                          والوجه الثاني : أن المستنبطين هم بعض الذين يردون الأمر إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، أي لو ردوا ذلك الأمر إليهم وطلبوا العلم به من ناحيتهم لعلمه من يقدر أن يستفيد العلم به من الرسول ومن أولي الأمر منهم ، فإن الرسول وأولي الأمر هم العارفون به ، وما كل من يرجع إليهم فيه يقدر أن يستنبط من معرفتهم ما يجب أن يعرف ، بل ذلك مما يقدر عليه بعض الناس دون بعض .

                          والمختار الوجه الأول ; فالواجب على الجميع تفويض ذلك إلى الرسول وإلى أولي الأمر في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ، وإليهم دون غيرهم من بعده ; لأن جميع المصالح العامة توكل [ ص: 244 ] إليهم ، ومن أمكنه أن يعلم بهذا التفويض شيئا يستنبطه منهم فليقف عنده ، ولا يتعده ، فإن مثل هذا من حقهم ، والناس فيه تبع لهم ، ولذلك وجبت فيه طاعتهم .

                          لا غضاضة في هذا على فرد من أفراد المسلمين ، ولا خدشا لحريته واستقلاله ، ولا نيلا من عزة نفسه ، فحسبه أنه حر مستقل في خويصة نفسه ، لم يكلف أن يقلد أحدا في عقيدته ولا في عبادته ، ولا غير ذلك من شئونه الخاصة به ، وليس من الحكمة ولا من العدل ولا المصلحة أن يسمح له بالتصرف في شئون الأمة ومصالحها ، وأن يفتات عليها في أمورها العامة ، وإنما الحكمة والعدل في أن تكون الأمة في مجموعها حرة مستقلة في شئونها كالأفراد في خاصة أنفسهم ، فلا يتصرف في هذه الشئون العامة إلا من يثق بهم من أهل الحل والعقد ، المعبر عنهم في كتاب الله بأولي الأمر ; لأن تصرفهم قد وثقت به الأمة هو عين تصرفها ، وذلك منتهى ما يمكن أن تكون به سلطتها من نفسها .

                          زعم الرازي وغيره أن في هذه الآية دليلا على حجية القياس الأصولي ، قال الأستاذ الإمام : وإنما تعلق الأصوليون في هذا بكلمة " يستنبطونه " وهي من مصطلحاتهم الفنية ، ولم تستعمل في القرآن بهذا المعنى فقولهم مردود ، أقول : وقد فرع الرازي على هذه المسألة أربعة فروع :

                          1 - أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص .

                          2 - أن الاستنباط حجة .

                          3 - أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث .

                          4 - أن النبي كان مكلفا باستنباط الأحكام كأولي الأمر .

                          وأورد على ما قاله بعض الاعتراضات وأجاب عنها كعادته ، ولما كانت المسألة التي أخذ منها هذه الفروع وبنى عليها هذه المجادلة - خارجة عن معنى الآية ، لا تدخل في معناها من باب الحقيقة ولا من باب المجاز ولا من باب الكناية ، كان جميع ما أورده لغوا وعبثا .

                          هذا شاهد من أفصح الشواهد على ما بيناه قبل من سبب غلط المفسرين ، وبعدهم عن فهم الكثير من آيات الكتاب المبين ، بتفسيره بالاصطلاحات المستحدثة ، فأهل الأصول والفقه اصطلحوا على معنى خاص لكلمة الاستنباط ، فلما ورد هذا اللفظ في هذه الآية حمل الرازي على فطنته أن يخرج بها عن طريقها ويسير بها في طريق آخر ذي شعاب كثيرة يضل فيها السائر ، حتى لا مطمع في رجوعه إلى الطريق السوي .

                          معنى الآية واضح جلي ، وهو أن بعض المسلمين من الضعفاء أو المنافقين أو العامة مطلقا يخوضون في أمر الأمن والخوف ، ويذيعون ما يصل إليهم منه على ما في الإذاعة به من الضرر ، والواجب تفويض مثل هذه الأمور العامة إلى الرسول وهو الإمام الأعظم [ ص: 245 ] والقائد العام في الحرب ، وإلى أولي الأمر من أهل الحل والعقد ورجال الشورى لأنهم هم الذين يستخرجون خفايا هذه الأمور ويعرفون مصلحة الأمة فيها ، وما ينبغي إذاعته وما لا ينبغي ، فأين هذا من مسائل النص في الكتاب على بعض الأحكام والسكوت عن بعض ؟ ووجوب استنباط ما سكت عنه مما نص عليه على الرسول وعلى أولي الأمر ، ووجوب اتباع العامة للعلماء فيما يستنبطونه مطلقا ؟ ليس هذا من ذاك في شيء .

                          على أن الرازي كان أبطل قول من قال إن أولي الأمر هم العلماء ، وقول من قال : إنهم الأمراء ، وأثبت أنهم أهل الحل والعقد أي جماعتهم ، فكيف يبطل هنا ما حققه في آية يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( 4 : 59 ) ، بقوله بوجوب تقليد العلماء ، كما أبطل به ما حققه في تفسير آيات كثيرة من بطلان التقليد ؟ قد علمت أيها القارئ الذي أنعم الله عليه بنعمة الاستقلال في الفهم أن الآية التي قبل هذه الآية قد أوجبت تدبر القرآن والاهتداء به على كل مسلم ، فكانت من الآيات الكثيرة الدالة على منع التقليد في أصول الدين وفاقا للرازي الذي صرح بذلك في تفسير الآية نفسها ، وكذا في الفروع العملية الشخصية كالعبادات والحلال والحرام ; لأن أكثرها معلوم من الدين بالضرورة ، والنصوص فيها أوضح وأقرب إلى الفهم من مسائل أصول الدين ، وفي حديث الصحيحين : الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه الحديث ، وهو قد أوجب في الأمور المشتبه فيها أن تترك لئلا تجر إلى الحرام ، ولم يوجب على المشتبه في شيء أن يرجع إلى ما يعتقده غيره ويقلده فيه ، وأما المسائل العامة كالحرب والسياسة والإدارة ، فهي التي تفوضها العامة إلى أولي الأمر منهم وتتبعهم فيها ، هذا ما تهدي إليه الآية وفاقا لغيرها من الآيات ، ولا اختلاف في القرآن .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية