الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

سعة رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى

السؤال

قد يبدو أن في سؤالي شيئا من الغرابة بعض الشيء، ولكنه تصور كثيرا ما يخالجني فأرجو توضيح الأمر بارك الله فيكم.
ما أشعر به هو أن النبي صلى الله عليه وسلم طيب القلب، ولا شك في ذلك طبعا، فتراه يحلم على الأعرابي الذي جذبه من ثوبه، ولكن كثيرا ما يخالجني أن الله ليس كذلك، فكثيرا ما أستشعر من كلام العلماء أن المذنب مستحق للعقوبة، فلا أستشعر الرحمة، ولا الحلم الذين أستشعرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحقيقة أن هذا الإحساس ليؤثر على مشاعر الحب تجاه الله عز وجل، فلا أشعر إلا بالخوف لا أكثر، فأرجو التوضيح بارك الله فيكم، وإن كان مع التوضيح إحالة لبعض الكتب التي تعين على حب الله فذلك أفضل؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فمحبة الله تعالى فرع لمعرفته، فلا يمكن أن نحب الله عز وجل دون أن نعرفه، كما لا يمكن أن نعرفه معرفة حقة ثم لا نحبه، لذلك ينبغي أن تكون بداية السائل هي التعرف على الله تعالى، فإذا عرفه عرف أن ما ذكره من حال النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم رحمته، وكذلك رحمة كل ذي رحمة من الخلق، إنما هي أثر من آثار رحمة الله تعالى، كما قال سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ {آل عمران: 159} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه. رواه البخاري ومسلم.

وإن كنا نقر أنه لا يصح ولا يليق أن نقارن بين رحمة الله تعالى وبين رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنا نذكر مثالا واحدا؛ لنقرب ما نريد إيضاحه للسائل الكريم، وهو ما حدث في غزوة أحد وما ترتب على ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كيف كان حكم الله القدري والشرعي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية. فنزلت (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) فتاب الله عليهم فأسلموا فحسن إسلامهم. رواه أحمد والبخاري والترمذي واللفظ له.

ثم يكفينا في ذلك حكم أعلم الناس بالله تعالى ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ حيث يقول: ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم. متفق عليه.

ولو ذهبنا نورد النصوص الشرعية الدالة على سعة رحمة الله لطال بنا المقام جدا، ولكن نذكر السائل الكريم ببعض النصوص التي تبين المراد، قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً {النساء:110} وقال سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53} وقال عز وجل: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ {غافر:7} وقال تبارك وتعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {الأنعام: 54}.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رجل لم يعمل خيرا قط: فإذا مات، فحرقوه، واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم. فغفر له. متفق عليه.

ثم لنذكر مظهرا واحد من مظاهر سعة رحمة الله تعالى، وهو تجازوه سبحانه عن الزلل، وشكره للقليل من العمل، وعفوه عن السيئات، ومضاعفته للحسنات، قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {الأنعام:160} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة. متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: إن رجلا لم يعمل خيرا قط، وكان يداين الناس فيقول لرسوله: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله تعالى أن يتجاوز عنا. فلما هلك قال الله عز وجل له: هل عملت خيرا قط؟ قال: لا إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس فإذا بعثته ليتقاضى قلت له خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا. قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك. رواه البخاري ومسلم والنسائي واللفظ له.

وقال صلى الله عليه وسلم: بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر. رواه البخاري ومسلم.

وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: نزع رجل لم يعمل خيرا قط غصن شوك عن الطريق إما كان في شجرة فقطعه وألقاه وإما كان موضوعا فأماطه، فشكر الله له بها فأدخله الجنة. رواه البخاري ومسلم وأبو داود واللفظ له.

ومن ذلك أيضا ما في الصحيحين من قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، ثم أقبل تائبا إلى الله عليه فقبضته ملائكة الرحمة، دون أن يعمل شيئا من الصالحات بعد توبته.

وعلى أية حال فما أُتي السائل إلا من قبل قلة معرفته بالله تعالى، ولذلك نبهناه أن بداية العلاج إنما هو في معرفة الله وأوامره الشرعية وأحكامه القدرية وسننه الكونية، ولا سبيل إلى معرفته عز وجل أقصر ولا أيسر، ولا أنفع ولا أرفع، من التعرف عليه من خلال كلامه سبحانه، نعني القرآن العظيم، فمن تدبر كتاب الله، وتفهم ما فيه من أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى، وأفعاله المثلى أحبه ولا شك، وقد سبق لنا تفصيل ذلك مع بيان الأسباب الجالبة لمحبة الله، في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 111261، 71891، 27513.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني