الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اختلاف العملات باختلاف الزمان والمكان

السؤال

سألتكم من قبل عن الإسلام والاقتصاد، ورقم سؤالي هو: (2515512)، وجزاكم الله خير جزاء، وزادنا علما، لكن لم أفهم شيئا، فأرجو منكم بيانه، قلتم: إن أجناس الأوراق المطبوعة تتعدد بتعدد جهات الإصدار، وأن الريال السعودي جنس، والدولار الأمريكي جنس آخر. فكيف ذلك؟ وقلتم أيضا: لا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع اختلاف الحقيقة (أي أن الريال السعودي الفضي جنس، والريال الورقي المطبوع جنس آخر) فهل تتعدد أجناس التمور بتعدد مكان زراعتها (أصلها) كتمر سعودي وعراقي؟ وكذلك الذهب يتغير جنسه؟ إذا كانت البنوك التي تصدر الأوراق لا قيمة لها، وبمجرد كتابة اسم البنك على ورقة مطبوعة -أي: حبر على ورقة، مثل: البنك المركزي العراقي- يغير جنس الورقة؟ لكن ما زلنا نقول لها ورقة ملونة، وهي في الأصل ورقة ملونة، فما الفرق؟ حبر على ورقةٍ مطبوعةٍ عليه صورة، وقيمة خيالية، وبمجرد كتابة اسم البنك يغير جنسها؟ لا أفهم، وفقدت عقلي! أرجو البيان.
قال الله تعالى: (فالحق والحق أقول)، وقال تعالى في القرآن: (دينار) وقال: (دراهم) أي: أنهما حق، وأنهما في القرآن والسنة -أي: في الشريعة الإسلامية- وتقولون: إن الدين يتحكم بالاقتصاد، ولا يجوز انفصالهما، وإذا قلنا: الاقتصاد. فأول شيء يأتي للعقول النقود، فلا بد من أن يكون في القرآن أو في السنة تبيان للوسيط (لتبادل) أليس كذلك؟ والله ذكر أنه هو خلق لنا ما في الأرض جميعا، وذكر في نهاية الآية أنه هو بكل شيء عليم، لا بد من أن يضع لنا الوسيط (البادل)، والرسول ذكر أنه يأتي زمان لا ينفع فيه إلا الدينار والدرهم (في مسند الإمام أحمد) فهل أتى هذا الزمان؟ وإذا كُنْتُمْ تقولون: لا. فماذا سيحصل في ذلك الزمان -ونظامنا الاقتصادي مبني على الإلحاد، لا على أساس الدين-؟ وذلك لأنه إذا كنا نريد الرزق نطلبه من الرزاق، لكن الآن أصبح رزق البشرية في يد الصهاينة (مخترعي هذا النظام) كم من رزق تريد أن أخلق لك؟
ألهذا النظام خضع المسلمون بالسكوت والموافقة؟!
أرجو منكم دليلا من القرآن والسنة ينافي ما قلته لكم، ودليلا أيضا على أن كل شيء يستخدم كالنقود ولو الرمال، أليس ديننا دينا متكاملا لا نقصان فيه؟ ونبينا نبي آخر الزمان؟ وأوحى إليه ربنا القرآن تبيانا لكل شيء، إذن لا بد من أن يكون فيه هدى لنا، فما هي الأدلة؟ أرجو الرد على كل مسألة كتبتها ولو على بريدي الإلكتروني: ahmedemad97u@hotmail.com

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فما ذكرناه في الفتوى رقم: 267016 إجابةً عن سؤالك واضح وبيّن من أن الدينار والدرهم اللذين كانا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليسا من السنن التي يجب أو يستحب التعامل بهما في كل وقت، وأن التعامل بالأوراق النقدية اليوم لا حرج فيه، إذ مرجع ذلك إلى أعراف الناس، وما يصطلحون عليه، وذلك يختلف باختلاف الزمان والمكان.
قال ابن عبد البر -رحمه الله- في التمهيد: كانت الدنانير في الجاهلية، وأول الإسلام بالشام، وعند عرب الحجاز، كلها رومية تضرب ببلاد الروم؛ عليها صورة الملك، واسم الذي ضربت في أيامه مكتوب بالرومية.. وكانت الدراهم بالعراق، وأرض المشرق، كلها كسروية؛ عليها صورة كسرى، واسمه فيها مكتوب بالفارسية. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى: النَّاسُ فِي مَقَادِيرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى عَادَاتِهِمْ؛ فَمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ وَجَعَلُوهُ دِرْهَمًا فَهُوَ دِرْهَمٌ، وَمَا جَعَلُوهُ دِينَارًا فَهُوَ دِينَارٌ، وَخِطَابُ الشَّارِعِ يَتَنَاوَلُ مَا اعْتَادُوهُ، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، فَإِذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ الْمُعْتَادَةُ بَيْنَهُمْ كِبَارًا لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَمْلِكَ مِنْهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَتْ صِغَارًا لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا، وَجَبَتْ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَ مِنْهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِطَةً فَمَلَكَ مِنْ الْمَجْمُوعِ ذَلِكَ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ بِضَرْبٍ وَاحِدٍ أَوْ ضُرُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ خَالِصَةً أَوْ مَغْشُوشَةً مَا دَامَ يُسَمَّى دِرْهَمًا مُطْلَقًا. وَهَذَا قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. انتهى.

وقال أيضا -رحمه الله-: وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تُقْصَدُ لِنَفْسِهَا، بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى التَّعَامُلِ بِهَا، وَلِهَذَا كَانَتْ أَثْمَانًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِهَا نَفْسِهَا، فَلِهَذَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِالْأُمُورِ الطَّبْعِيَّةِ أَوْ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْوَسِيلَةُ الْمَحْضَةُ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ لَا بِمَادَّتِهَا وَلَا بِصُورَتِهَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ كَيْفَمَا كَانَتْ. انتهى.
فمقادير الدراهم والدنانير -كما قال شيخ الإسلام- على عادات الناس واصطلاحهم؛ لأنها ليست مقصودة في ذاتها حتى يحددها الشارع، بل هي وسيلة إلى التعامل بها، أرجعها الشارع إلى أعراف الناس، فلا يصح أن تستدل على وجوب تعيين العملات النقدية -ونحوها من الأثمان- بأن الاقتصاد في الإسلام مبني في أحكامه على الدين، لأن هذه العملات وسائل أرجعها الشارع إلى أعراف الناس، وما كان من مقاصد الدين في الأموال فقد بينها الشارع غاية البيان، فحرم الربا، وحرم أكل أموال الناس بالباطل، وحرم القمار، وغير ذلك، وبين الشروط اللازمة في البيوع من التراضي، وملك السلعة، وغيرها. وراجع الفتوى رقم: 66692.
وأما ما ذكرته من أن الأوراق النقدية اليوم أجناس تتعدد باختلاف جهات الإصدار: فقد نقلناه عن قرار هيئة كبار العلماء، في الفتوى التي أحلنا عليها برقم: 116860.
وكون الأوراق النقدية قامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، لأنها أصبحت اليوم ثمنا للأشياء، وتقوّم بها، وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها، مع اختفاء التعامل بالذهب والفضة. وراجع الفتوى رقم: 11736.
وقد نقلنا في قرار هيئة كبار العلماء -المشار إليه- قولهم: مقومات الورقة النقدية قوة وضعفاً مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية، فتقوى الورقة بقوة دولتها، وتضعف بضعفها. انتهى. فلهذا كانت هذه الأوراق النقدية أجناسا متعددة بتعدد جهات الإصدار -وهي الحكومات- لتعدد واختلاف اقتصاد هذه الحكومات، فصار الريال السعودي -مثلا- جنسا، والريال القطري جنسا، كما أن الذهب جنس والفضة جنس.

وأما التمر فهو جنس واحد مختلف الأنواع، كما أن العملة السعودية -مثلا- جنس مختلف الفئات (فئة ريال واحد، فئة خمسة ريالات، فئة مائة ريال ... وهكذا).

وأما الحديث الذي أشرت إليه: فقد رواه الإمام أحمد عن أبي الْيَمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: كَانَتْ لِمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، جَارِيَةٌ تَبِيعُ اللَّبَنَ، وَيَقْبِضُ الْمِقْدَامُ الثَّمَنَ، فَقِيلَ لَهُ: سُبْحَانَ اللهِ؛ أَتَبِيعُ اللَّبَنَ وَتَقْبِضُ الثَّمَنَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ" وقد قال المحققون (شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون): إسناده ضعيف، لضعف أبي بكر بن أبي مريم، ولانقطاعه- كما نص عليه الحافظُ ابن حجر في "أطراف المسند" 5/392- قال: أبو بكر بن أبي مريم لم يدرك المقدام بن مَعْدِي كَرِبَ، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح. أبو اليمان: هو الحكم بن نافع الحمصي. انتهى.
ومع القول بضعفها فإن معناه ينطبق على زماننا هذا، فأغلب الناس على ذلك إلا من رحم الله.
وقد ذكرنا في الفتوى: 160241 أن النظام الاقتصادي الإسلامي هو المنهج الحق، فما كان من تقصير، فهو بسبب المسلمين وبعدهم عن دينهم.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني