الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم ترك تخليل الأصابع في الوضوء إذا وجد إصبعين متشابكين

السؤال

وجدت في إحدى الفتاوى أن تخليل أصابع اليدين والرجلين سنة من سنن الوضوء، فلم أخلل أصابع يدي أو قدمي، ولكنني في مرة وأنا أتوضأ لاحظت أن إصبعين مشتبكان ولم أخللهما عملاً بأن التخليل سنة، وبعد ذلك شككت في الأمر فقررت أن أبحث عن المسألة فوجدت في إحدى الفتاوى على هذا الموقع أن التخليل واجب إذا لم يتحقق وصول الماء بين الأصابع إلا به.. ولم أقض أي صلوات، لأنني كنت آخذ بقول ابن تيمية في أن من وقع في أمر مبطل للصلاة جاهلاً به لا تلزمه الإعادة، وكذلك على ما أعتقد كنت آخذ بقول ابن تيمية أن من ترك موضعاً قليلاً لم يصبه الماء فلا شي عليه إلحاقاً له بما تحت الظفر، ولكنني لا آخذ بهذا القول الآن، فما حكم ذلك؟ وهل فرطت في تعلم تلك الأشياء والبحث عنها؟ أرجو أن تكون الإجابة واضحةً، وشكراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن كان اشتباك الأصبعين المذكورين يحتمل إمكان وصول الماء ولو احتمالاً ضعيفاً، فأنت قد فرغت من أداء تلك الصلوات ثم شككت في تمام شرطها، فلا تجب عليك إعادة تلك الصلوات عند جمهور أهل العلم، وذلك أنك تيقنت الفراغ من العبادة ثم شككت في صحتها، والأصل إتيانك بها على وجهها، واليقين لا يزال بالشك، قال ابن قدامة في المغني: لأن الشك في شرط العبادة بعد فراغها لا يؤثر فيها. اهـ

قال الدسوقي المالكي في حاشيته على شرح الدردير: بقي ما إذا شك بعد الفراغ من الصلاة، فلا شيء عليه، إلا إذا تبين له الحدث. اهـ

وإنما أوجب المالكية الإعادة على من شك في وضوئه قبل الصلاة ولو بعد فراغه منه، أو وهو في الصلاة إذا لم يتيقن بعد الفراغ منها أنه كان على طهر، أما الشافعية: فلا يؤثر عندهم الشك بعد الوضوء على الأصح، قال ابن حجر الشافعي في التحفة: ويؤثر الشك قبل الفراغ من الوضوء لا بعده. اهـ

وقال الرملي في نهاية المحتاج: والمراد بالشك هنا وفي معظم أبواب الفقه: مطلق التردد سواء كان على السواء أم أحد طرفيه أرجح، اهـ ، وكذلك قال الحنابلة .

أما إذا تيقنت عدم إمكان دخول الماء بين الأصبعين إلا بالتفريق أو التخليل وجب عليك إعادة تلك الصلوات التي تيقنت عدم صحة وضوئها على مذهب جمهور أهل العلم، ولا تجب عليك في رواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية لعذرك بجهلك بالحكم، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: ومن هذا الباب من ترك الطهارة الواجبة ولم يكن علم بوجوبها أو صلى في الموضع المنهي عنه قبل علمه بالنهي: هل يعيد الصلاة؟ فيه روايتان منصوصتان عن أحمد، والصواب في هذا الباب كله: أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم وأنه لا يقضي ما لم يعلم وجوبه. ثم ساق أدلته.

أما سؤالك عن تقصيرك: فلا شك أنك كنت مقصراً، فإن تعلم أحكام الطهارة والصلاة واجب عيني فيما لا تصح فروض يومه وليلته إلا به، ولذلك يوجب الجمهور عليك القضاء، لاعتبار التقصير، أما شيخ الإسلام فلا يوجب القضاء، كما هي الرواية الثانية عن أحمد، للجهل، ثم إذا كنت مقلداً لمذهب شيخ الإسلام في هذه المسألة، ثم قلدت غيره، لا ينسحب حكمه على تقليدك الأول، فلا إعادة عليك في ما سبق تغيُّرَ تقليدِك، هذا كله إذا تيقنت عدم احتمال دخول الماء بين الأصبعين، أما إن احتمل فلا إعادة عليك عند أكثر العلماء ـ ابن تيمية وغيره ـ لورود الشك بعد انقضاء الصلاة.

أما قولك: كنت آخذ بقول ابن تيمية أن من ترك موضعاً قليلاً لم يصبه الماء فلا شيء عليه إلحاقاً له بما تحت الظفر ـ فهذا لا نعلم أن ابن تيمية صرح به، والذي نعلمه عنه أنه يقول بالعفو عن المانع اليسير الذي يمر فوقه الماء، قياساً على الوسخ تحت الظفر، وهذا وجه عند أصحاب أحمد اختاره، ولا نعلم له تصريحا بأنّ ترْك جزءٍ يسير من العضو مكشوفٍ ـ دون مماسة الماء له، أو لما فوقه من اليسير ـ يُلحق بذلك، قال في مجموع الفتاوى: وإنْ منع يسيرُ وسخٍ في ظفر ونحوه وصولَ الماء، صحت الطهارة، وهو وجه لأصحابنا، ومثله كل يسير منع وصول الماء، حيث كان، كدم وعجين. اهـ

وقال ابن مفلح الحنبلي ـ وهو أحد تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية ـ في كتابه الفروع: وإن منع يسير وسخ ظفر ونحوه وصول الماء، ففي صحة طهارته وجهان، وقيل يصح ممن يشق تحرزه منه، وجعل شيخنا ـ يعني ابن تيمية ـ مِثلَه كلَّ يسيرٍ مَنَعَ حيث كان، كدم، وعجين، واختار العفو. اهـ

وعبارة مطالب أولي النهى في المذهب الحنبلي: وأَلحَقَ به أي: بالوسخ اليسير ـ الشيخُ تقيُّ الدين كلَّ يسيرٍ مَنَع وصولَ الماء كدمٍ وعجين في أي عضو كان من البدن، واختاره قياساً على ما تحت الظفر، ويدخل فيه الشقوق التي في بعض الأعضاء. اهـ

فشيخ الإسلام لم يصرح ـ فيما نعلم ـ بالعفو عن ترك جزءٍ من الجسد لم يمسه الماء، إلا ما مر في المانع اليسير الذي يمر عليه الماء، ولا بعدم وجوب الإعادة على من ترك غسل جزءٍ واجب من عضو إلا إذا جهل وجوب غسله، أي جهل حكمه، أما الناسي لغسله أو الجاهل بعدم وصول الماء إليه، فتجب عليه الإعادة عنده إذا انتبه لذلك وتيقن ولو بعد الفراغ من الصلاة لحديث أبي داود عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لُمعةٌ قدرُ الدرهم، لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة. وجوّد إسناده الإمام أحمد، كما في رواية الأثرم عنه.

وقد صرح ابن تيمية في غير موضع بخلاف ما فهمتَ، كما في المسائل والأجوبة، قال: وكذلك من نسي الطهارة فصلى بلا وضوء فعليه أن يعيد، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من توضأ وترك لُمعةً من قدمه لم يمسّها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة. اهـ

وقال في مجموع الفتاوى: وأما أمره لمن ترك لمعة في رجله لم يصبها الماء بالإعادة، فلأنه كان ناسياً، فلم يفعل الواجب. اهـ

وعلى كلّ حال، فأنت معذور عند ابن تيمية في صلواتك الماضية بعدم معرفتك الحكم، فلا إعادة على مذهبه في عدم وجوب الإعادة على من جهل الحكم الشرعي.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني