الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 515 ] ( كتاب الخنثى ) [ ص: 516 ] ( فصل في بيانه )

قال ( وإذا كان للمولود فرج وذكر فهو خنثى ، فإن كان يبول من الذكر فهو غلام ، وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى ) { لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عنه كيف يورث ؟ فقال من حيث يبول } وعن علي رضي الله عنه مثله . ولأن البول من أي عضو كان فهو دلالة على أنه هو العضو الأصلي الصحيح والآخر بمنزلة العيب ( وإن بال منهما فالحكم للأسبق ) لأن ذلك دلالة أخرى على أنه هو العضو الأصلي ( وإن كانا في السبق على السواء فلا معتبر بالكثرة عند أبي حنيفة . وقالا : ينسب إلى أكثرهما بولا ) لأنه علامة قوة [ ص: 517 ] ذلك العضو وكونه عضوا أصليا ، ولأن للأكثر حكم الكل في أصول الشرع فيترجح بالكثرة . وله أن كثرة الخروج ليس يدل على القوة ، لأنه قد يكون لاتساع في أحدهما وضيق في الآخر ، وإن كان يخرج منهما على السواء فهو مشكل بالاتفاق لأنه لا مرجح .

قال ( وإذا بلغ الخنثى وخرجت له اللحية أو وصل إلى النساء فهو رجل ) وكذا إذا احتلم كما يحتلم الرجل أو كان له ثدي مستو ، لأن هذه من علامات الذكران ( ولو ظهر له ثدي كثدي المرأة أو نزل له لبن في ثديه أو حاض أو حبل أو أمكن الوصول إليه من الفرج فهو امرأة ) لأن هذه من علامات النساء ( وإن لم يظهر إحدى هذه العلامات فهو خنثى مشكل ) وكذا إذا تعارضت هذه المعالم .

التالي السابق


( فصل في أحكامه )

قال في النهاية : لما فرغ من بيان أحكام من له آلة واحدة في المبال من آلتي النساء والرجال شرع في بيان أحكام من له آلتان فيه ، وقدم ذكر الأول لما أن الواحد قبل الاثنين ، أو لأن الأول هو الأعم والأغلب وهذا كالنادر فيه انتهى . أقول : فيه بحث . أما أولا فلأن ما ذكر في الكتب السالفة من الأحكام ليس بمخصوص بمن له آلة واحدة ، بل يعم من له آلة واحدة ومن له آلتان ; ألا يرى أن الأحكام المارة في كتاب الوصايا مثلا جارية بأسرها في حق الخنثى أيضا ، وكذلك الحال في أحكام سائر الكتب المتقدمة كلها أو جلها ، فما معنى قوله لما فرغ من بيان أحكام من له آلة واحدة شرع في بيان أحكام من له آلتان . وأما ثانيا فلأن قوله شرع في بيان أحكام من له آلتان ليس بتام ، إذ جعل المصنف لكتاب الخنثى فصلين ، ووضع الفصل الأول لبيانه والفصل الثاني لأحكامه حيث قال : فصل في بيانه . ثم قال : فصل في أحكامه ، فهو في هذا الكتاب إنما شرع حقيقة في بيان من له آلتان لا في بيان أحكامه ، وإنما ذكر أحكامه في الفصل الثاني بعد أن ذكر بيان نفسه في الفصل الأول ، وإن صح أن يقال شرع في أحكامه أيضا بتأويل ما فما معنى تخصيص الشروع بالثاني في قوله شرع في بيان حكم من له آلتان ، ويمكن التوجيه بعناية فتأمل . وقال في العناية : لما فرغ من بيان أحكام من غلب وجوده ذكر أحكام من هو نادر الوجود ا هـ .

أقول : يتجه عليه أيضا ما ذكرناه آنفا من البحث الأول بل بعض البحث الثاني أيضا فتأمل . وقال في غاية البيان : أخر كتاب الخنثى لوقوعه نادرا لأن الأصل أن يكون لكل شخص آلة واحدة ، إما آلة الرجل ، وإما آلة الأنثى ، واجتماع الآلتين في شخص واحد في غاية الندرة ، ولكن قد يقع ذلك فيحتاج إلى بيان حكمه ، فلأجل هذا ذكره وأخره عن سائر الكتب لندرته وقلة الاحتياج إليه بيانه ا هـ .

أقول : هذا جيد إلا قوله وقلة الاحتياج إلى بيانه ، فإن ما يكون نادر الوقوع وخلاف المعتاد يكون أحوج إلى البيان لكونه بعيدا عن الأذهان موقوفا حاله على أمر خفي . وعن هذا قال في النهاية : ومن محاسن أحكام الخنثى ترك الإهمال في البيان وإن ندر وجوده في الأزمان . [ ص: 516 ]

( فصل في بيانه )

قال صاحب العناية : فإن قيل الفصل إنما يذكر لقطع شيء من شيء آخر باعتبار نوع مغايرة بينهما ، وهاهنا لم يتقدم شيء فما وجه ذكر الفصل . قلت : كلامه في قوة أن يقال : هذا الكتاب فيه فصلان : فصل في بيان الخنثى وفصل في أحكامه ، وما ذكرت فإنما هو في وقوعه في التفصيل لا في الإجمال ا هـ . وقال بعض المتأخرين بعد نقل هذا السؤال والجواب : ولك أن تقول انفصال طائفة من المسائل عن أخرى منها يستلزم انفصال الأخرى عن الأولى ، فإذا عنونت الثانية بالفصل كما هو المعتاد كان ذلك في قوة تعنون الأولى به أيضا وإن لم يصرح به في العادة ، لكن صرح به هنا إشارة في أول الوهلة إلى أن هنا فصلا آخر يذكر بعيده وهو ما ذكره بقوله فصل في أحكامه فتأمل انتهى . أقول : هذا كلام خارج عن سنن السداد . أما أولا فلأن الفصل إنما يذكر لقطع شيء من شيء آخر تقدم عليه لقطعه من شيء آخر مطلقا ، وقد أشار إليه صاحب العناية بقوله وهنا لم يتقدم شيء فما وجه ذكر الفصل ؟ فاستلزام انفصال طائفة من المسائل عن أخرى منها انفصال الأخرى عن الأولى إنما يقتضي تحقق معنى الانفصال مطلقا في الأولى لا تحقق الانفصال عما تقدم في الأولى أيضا كما لا يخفى ، والفصل إنما يذكر لقطع شيء من شيء آخر تقدم عليه فلا يتم التقريب . وأما ثانيا فلأنه كيف يحصل بالتصريح بالفصل هنا الإشارة في أول الوهلة إلى هنا فصلا آخر يذكر بعيده وذكر فصل لا يقتضي ذكر فصل آخر لا في اللغة ولا في العرف ، وإلا لزم أن يقتضي ذكر فصل في أحكامه ذكر فصل آخر أيضا بعيده ولم يذكر بعده فصل آخر قطعا ، وعن هذا تراهم يذكرون في كثير من المواضع فصلا واحدا ولا يذكرون بعده فصلا آخر أصلا .




الخدمات العلمية