بسم الله الرحمن الرحيم
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول )
الفيل أكبر ما رأيناه من وحوش البر يجلب إلى ملك مصر ، ولم نره بالأندلس بلادنا ، ويجمع في القلة على أفيال ، وفي الكثرة على فيول وفيلة . الأبابيل : الجماعات تجيء شيئا بعد شيء ، قال الشاعر :
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
وقال الأعشى :
طريق وجبار رواء أصوله عليه أبابيل من الطير تنعب
قال أبو عبيدة : لا واحد له من لفظه ، فيكون مثل عبابيد وبيادير . وقيل : واحده إبول مثل عجول ، وقيل : إبيل مثل سكين ، وقيل : وذكر والفراء الرقاشي ، وكان ثقة ، أنه سمع في واحده : إبالة ، وحكى الفراء : إبالة مخففا .
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول ) .
هذه [ ص: 512 ] السورة مكية ، ولما ذكر فيما قبلها عذاب الكفار في الآخرة أخبر هنا بعذاب ناس منهم في الدنيا ، والظاهر أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، يذكر نعمته عليه ، إذ كان صرف ذلك العدو العظيم عام مولده السعيد عليه السلام ، وإرهاصا بنبوته ، إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول ، من خوارق العادات والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، ومعنى ( ألم تر ) ألم تعلم قدره على وجود علمه بذلك ؟ إذ هو أمر منقول نقل التواتر ، فكأنه قيل : قد علمت فعل الله ربك بهؤلاء الذين قصدوا حرمه ، ضلل كيدهم وأهلكهم بأضعف جنوده ، وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل .
وقصة الفيل ذكرها أهل السير والتفسير مطولة ومختصرة ، وتطالع في كتبهم ، وأصحاب الفيل : أبرهة بن الصباح الحبشي ومن كان معه من جنوده ، والظاهر أنه فيل واحد ، وهو قول الأكثرين . وقال الضحاك : ثمانية فيلة ، وقيل : اثنا عشر فيلا ، وقيل : ألف فيل ، وهذه أقوال متكاذبة ، وكان العسكر ستين ألفا ، لم يرجع أحد منهم إلا أميرهم في شرذمة قليلة ، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا ، وكان الفيل يوجهونه نحو مكة لما كان قريبا منها فيبرك ، ويوجهونه نحو اليمن والشام فيسرع ، وقال : الواقدي أبرهة جد الذي كان في زمن الرسول ، صلى الله عليه وسلم . وقرأ النجاشي السلمي : ( ألم تر ) بسكون ، وهو جزم بعد جزم ، ونقل عن صاحب اللوامح ( ترأ ) بهمزة مفتوحة مع سكون الراء على الأصل ، وهي لغة لتيم ، و " تر " معلقة ، والجملة التي فيها الاستفهام في موضع نصب به ، وكيف معمول لفعل ، وفي خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( فعل ربك ) تشريف له صلى الله عليه وسلم ، وإشادة من ذكره ، كأنه قال : ربك معبودك هو الذي فعل ذلك لا أصنام قريش إساف ونائلة وغيرهما .
( ألم يجعل كيدهم في تضليل ) وإبطال ، يقال : ضلل كيدهم إذا جعله ضالا ضائعا ، وقيل لامرئ القيس : الضليل ، لأنه ضلل ملك أبيه ، أي ضيعه ، وتضييع كيدهم هو بأن أحرق الله تعالى البيت الذي بنوه قاصدين أن يرجع حج العرب إليه ، وبأن أهلكهم لما قصدوا هدم بيت الله الكعبة بأن أرسل عليهم طيرا جاءت من جهة البحر ، ليست نجدية ولا تهامية ولا حجازية سوداء ، وقيل : خضراء على قدر الخطاف . وقرأ الجمهور : ( ترميهم ) بالتاء ، والطير اسم جمع بهذه القراءة ، وقوله :
كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد
وتذكر كقراءة أبي حنيفة وابن يعمر وعيسى وطلحة في رواية عنه : يرميهم ، وقيل : الضمير عائد على ( ربك ) . ( بحجارة ) كان كل طائر في منقاره حجر ، وفي رجليه حجران ، كل حجر فوق حبة العدس ودون حبة الحمص ، مكتوب في كل حجر اسم مرميه ، ينزل على رأسه ويخرج من دبره ، ومرض أبرهة ، فتقطع أنملة أنملة ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت أبو مكسوم وزيره ، وطائره يتبعه حتى وصل إلى وأخبره بما جرى للقوم ، فرماه الطائر بحجره فمات بين يدي الملك ، وتقدم شرح سجيل في سورة النجاشي هود ، والعصف في سورة الرحمن ، شبهوا بالعصف ورق الزرع الذي أكل ، أي وقع فيه الأكال ، وهو أن يأكله الدود ، والتبن الذي أكلته الدواب وراثته ، وجاء على آداب القرآن نحو قوله : ( كانا يأكلان الطعام ) أو الذي أكل حبه فبقي فارغا ، فنسبه أنه أكل مجاز ، إذ المأكول حبه لا هو ، وقرأ الجمهور : ( مأكول ) بسكون الهمزة وهو الأصل ، لأن صيغة مفعول من فعل ، وقرأ ، فيما نقل أبو الدرداء ابن خالويه : بفتح الهمزة إتباعا لحركة الميم وهو شاذ ، وهذا كما اتبعوه في قولهم : محموم بفتح الحاء لحركة الميم ، قال : لما رد الله الحبشة عن ابن إسحاق مكة ، عظمت العرب قريشا وقالوا : أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مئونة عدوهم ، فكان ذلك نعمة من الله تعالى عليهم ، وقيل : هو إجابة لدعاء الخليل عليه الصلاة والسلام .