[ ص: 157 ] باب بيع اللحم بالحيوان
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن نهى عن بيع اللحم بالحيوان ابن عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه ، فجاء رجل بعناق ، فقال : أعطوني جزءا بهذه العناق . فقال أبو بكر : لا يصلح هذا . وكان القاسم بن محمد ، وابن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، يحرمون عاجلا وآجلا ، يعطون ذلك ولا يرخصون فيه ( قال ) وبهذا نأخذ كان اللحم مختلفا أو غير مختلف ، ولا نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خالف في ذلك بيع اللحم بالحيوان أبا بكر ، وإرسال ابن المسيب عندنا حسن . ( قال المزني ) إذا لم يثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالقياس عندي أنه جائز : وذلك أنه كان فصيل بجزور قائمين جائزا ، ولا يجوزان مذبوحين : لأنهما طعامان لا يحل إلا مثلا بمثل ، فهذا لحم وهذا حيوان ، وهما مختلفان فلا بأس به في القياس ، إن كان فيه قول متقدم ممن يكون بقوله اختلاف إلا أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا فيكون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الماوردي : وهذا كما قال . لا يجوز ، وهو في الصحابة قول بيع اللحم بالحيوان أبي بكر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وفي التابعين قول سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وفي الفقهاء قول مالك ، والليث بن سعد والأوزاعي .
وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : بيعه جائز بكل حال ، وقال محمد بن الحسين : يجوز بيع اللحم بالحيوان إذا كان اللحم من لحم الحيوان : ليكون فاضل اللحم في مقابله الجلد والعظم ، فإن كان بمثله أو أقل لم يجز .
وقال المزني : يجوز بيعه بكل حال قياسا ، إلا أن يكون الخبر المروي فيه ثابتا ، واستدل من أجازه بأن اللحم فيه الربا ، والحيوان ليس فيه ربا ، وبيع ما فيه الربا بما لا ربا فيه جائز كبيع اللحم بالجلد : ولأن ما فيه الربا بعلتين مختلفتين يجوز بيع أحدهما بالآخر ، فبأن يجوز بيع ما فيه الربا بما لا ربا فيه أولى .
ولأصحابنا في الدليل على المسألة طريقان :
[ ص: 158 ] أحدهما : اتباع السنة والأثر دون القياس والنظر ، وهو ما رواه الشافعي بإسناده عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم . نهى عن بيع اللحم بالحيوان
فإن قيل : فحديث سعيد بن المسيب مرسل ، والمراسيل عند الشافعي ليست حجة ، قيل : أما مراسيل غير سعيد بن المسيب فليست عند الشافعي بانفرادها حجة ، وأما سعيد ، فقد حكي عن مراسيل الشافعي أنه أخذ بها في القديم ، وجعلها على انفرادها حجة ، وإنما خص سعيد بقبول مراسيله ، لأمور : منها أن سعيدا لم يرسل حديثا قط إلا وجد من طريق غيره مسندا ، ومنها أنه كان قليل الرواية لا يروي أخبار الآحاد ، ولا يحدث إلا بما سمعه عن جماعة أو عضده قول الصحابة رضي الله عنهم ، أو رآه منتشرا عند الكافة ، أو وافقه فعل أهل العصر ، ومنها أن رجال سعيد بن المسيب الذين أخذ منهم وروى عنهم هم أكابر الصحابة ، وليس كغيره الذي يأخذ عمن وجد ، ومنها أن مراسيل سعيد سيرت فكانت مأخوذة عن أبي هريرة ، وكان يرسلها لما قد عرفه الناس من الأنس بينهما والوصلة ، وإن سعيدا كان صهر أبي هريرة على ابنته فصار إرساله كإسناده عن أبي هريرة ، ومذهب الشافعي في الجديد : أنه مرسل سعيد وغيره ليس بحجة ، وإنما قال : مرسل سعيد عندنا حسن لهذه الأمور التي وصفنا ، استئناسا بإرساله ، ثم اعتمادا على ما قاربه من الدليل ، فيصير المرسل حينئذ مع ما قاربه حجة .
أحد سبعة أشياء : إما قياس ، أو قول صحابي ، وإما فعل صحابي ، وإما أن يكون قول الأكثرين ، وإما أن ينتشر في الناس من غير دافع له ، وإما أن يعمل به أهل العصر ، وإما أن لا يوجد دلالة سواه ، وقد اتصل بمرسل والذي يصير به المرسل حجة سعيد هذا أكثر هذه السبعة ، فمن ذلك إسناد غيره ، وهو ما روي عن مالك ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان ، وروى الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ، ومن ذلك الأثر الذي رواه ابن عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه ، فجاء رجل بعناق ، فقال أعطوني جزورا بهذه العناق ، فقال أبو بكر : لا يصلح هذا . فكان قول أبي بكر مع انتشاره في الناس عدم معارضا له وحصول العمل به دليل وكيد في لزوم الأخذ به ، فإن قيل : فيجوز أن يكون الجزور من إبل الصدقة ، فمن أجل ذلك منع أبو بكر من بيعه بالعناق . قيل : هذا تأويل لا يصح أن يكون الحديث محمولا عليه : لأن إبل الصدقة إنما تتخذ لإطعام الفقراء ، فلا جائز أن ينسب أحد من الصحابة أو من عاصرهم إلى أنه التمس ابتياع شيء منه لعناق ولا غيره ، مع ظهور الحال بحضور أبي بكر ، ولما كان نقل الحال مفيدا فإنما يفيد نقلها فيما يجوز بيعه لا سيما مع إطلاق ابن عباس الحكم ونقل السبب .
[ ص: 159 ] والطريق الثانية لأصحابنا في المسألة من جهة القياس والنظر على ما قدمناه من السنة والأثر ، هو أن كالدبس بالتمر ، والشيرج بالسمسم ، ولأن كل جنس فيه الربا لا يجوز أن يباع ما زال عن حال البقاء بأصله الذي هو على حال البقاء كالدقيق بالحنطة ، وكذا اللحم بالحيوان ، وأما الجواب عن قولهم بأنه يبيع ما فيه الربا بما لا ربا فيه كاللحم بالجلد ، فهو أن الجلد ليس فيه لحم ، فلذلك جاز بيعه باللحم ، وليس كذلك الحيوان : لأن فيه لحما ، كما لا يجوز بيع لب الجوز بالجوز ، ويجوز بيعه بقشور الجوز ، وبمثله يجاب عن الاستدلال الآخر . كل ما كان فيه الربا لم يجز أن يباع بأصله الذي فيه منه