[ ص: 100 ] [ ص: 101 ] النوع الثاني
في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام ويتضمن مسائل
المسألة الأولى
إن هذه الشريعة المباركة عربية ، لا مدخل فيها للألسن العجمية ، وهذا - وإن كان مبينا في أصول الفقه ، وأن القرآن ليس فيه كلمة أعجمية عند جماعة من الأصوليين ، أو فيه ألفاظ أعجمية تكلمت بها العرب ، وجاء القرآن على وفق ذلك; فوقع فيه المعرب الذي ليس من أصل كلامها - ، فإن هذا البحث [ ص: 102 ] على هذا الوجه غير مقصود هنا .
وإنما البحث المقصود هنا أن ; لأن الله تعالى يقول : القرآن نزل بلسان العرب على الجملة ، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة إنا أنزلناه قرآنا عربيا [ يوسف : 2 ] .
وقال : بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] .
وقال : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] .
وقال : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ فصلت : 44 ] .
إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب ، لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم ، فمن أراد تفهمه; فمن جهة لسان العرب يفهم ، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة ، هذا هو المقصود من المسألة .
وأما كونه جاءت فيه ألفاظ من ألفاظ العجم ، أو لم يجئ فيه شيء من ذلك; فلا يحتاج إليه إذا كانت العرب قد تكلمت به ، وجرى في خطابها ، وفهمت معناه ، فإن العرب إذا تكلمت به صار من كلامها ، ألا ترى أنها لا تدعه على لفظه الذي كان عليه عند العجم ، إلا إذا كانت حروفه في المخارج والصفات كحروف العرب ، وهذا يقل وجوده ، وعند ذلك يكون منسوبا إلى العرب ، فأما إذا لم تكن حروفه كحروف العرب ، أو كان بعضها كذلك دون [ ص: 103 ] بعض; فلا بد لها من أن تردها إلى حروفها ، ولا تقبلها على مطابقة حروف العجم أصلا ، ومن أوزان الكلم ما تتركه على حاله في كلام العجم ، ومنها ما تتصرف فيه بالتغيير كما تتصرف في كلامها ، وإذا فعلت ذلك صارت تلك الكلم مضمومة إلى كلامها ، كالألفاظ المرتجلة ، والأوزان المبتدأة لها ، هذا معلوم عند أهل العربية لا نزاع فيه ولا إشكال .
ومع ذلك; فالخلاف الذي يذكره المتأخرون في خصوص المسألة لا ينبني عليه حكم شرعي ، ولا يستفاد منه مسألة فقهية ، وإنما يمكن فيها أن توضع مسألة كلامية ينبني عليها اعتقاد ، وقد كفى الله مؤونة البحث فيها بما استقر عليه كلام أهل العربية في الأسماء الأعجمية .
فإن قلنا : إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه ، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها ، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره ، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه ، وبالعام يراد به الخاص ، والظاهر يراد به غير الظاهر ، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره ، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره ، أو آخره عن أوله ، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة ، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة ، والأشياء الكثيرة باسم واحد ، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها .
[ ص: 104 ] فإذا كان كذلك; فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب ، فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب ، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فهم لسان العجم; لاختلاف الأوضاع والأساليب ، والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الإمام ، في رسالته الموضوعة في أصول الفقه ، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ; فيجب التنبه لذلك ، وبالله التوفيق . الشافعي