الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع النداء فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          154 151 - ( مالك عن أبي الزناد ) عبد الله بن ذكوان ، ( عن الأعرج ) عبد الله بن [ ص: 273 ] هرمز ، ( عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا نودي للصلاة ) أي لأجلها وللنسائي عن قتيبة عن مالك بالصلاة وهي رواية لمسلم أيضا ، ويمكن حملهما على معنى واحد ( أدبر الشيطان ) إبليس على الظاهر ، ويدل عليه كلام كثير من الشراح ، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن أو الإنس لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة ، ( له ضراط ) جملة اسمية وقعت حالا بدون واو لحصول الارتباط بالضمير وفي رواية للبخاري وله بالواو ، وقال عياض : يمكن حمله على ظاهره ; لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره ، ويقربه رواية مسلم له حصاص بمهملات مضموم الأول ، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو ، وقال الطيبي : شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع غيره ثم سماه ضراطا .

                                                                                                          ( حتى لا يسمع النداء ) أي التأذين كما هو رواية التنيسي للموطأ ومسلم من رواية المغيرة عن أبي الزناد والمعنى واحد ، وقال الحافظ : ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن أو يصنع ذلك استخفافا كما تفعله السفهاء أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث ، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها ، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان ; لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت وقد بينت الغاية في رواية مسلم من حديث جابر فقال : حتى يكون مكان الروحاء ، قال سليمان : يعني الأعمش فسألته أي أبا سفيان رواية عن جابر عن الروحاء ، فقال : هي من المدينة ستة وثلاثون ميلا ، وقد أدرج هذا إسحاق بن راهويه في مسنده فقال حتى يكون بالروحاء وهي ستة . . . إلخ والمعتمد الأول .

                                                                                                          ( فإذا قضي النداء ) بضم القاف ، أي : فرغ وانتهى منه ، ويروى بفتح القاف على حذف الفاعل والمراد المنادي ، أي : إذا قضى المنادي النداء ( أقبل ) ، زاد مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة فوسوس ( حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر ) بضم المثلثة وشد الواو المكسورة ، قيل من ثاب إذا رجع ، وقيل من " ثوب " إذا أشار بثوبه عند الفزع لإعلام غيره ، قال الجمهور : المراد هنا الإقامة وبه جزم أبو عوانة والخطابي وغيرهم ، وقال القرطبي : ثوب بالصلاة ، أي : أقيمت وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان ، وكل مردد صوت فهو مثوب ، ويدل عليه رواية مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة : " فإذا سمع الإقامة ذهب " ، وزعم بعض الكوفيين أن المراد بالتثويب قول المؤذن بين الأذان والإقامة حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة ، وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة وزعم أنه تفرد به ، لكن في سنن أبي داود عن ابن عمر أنه كره التثويب بين الأذان والإقامة ، فهذا يدل على أن له سلفا في [ ص: 274 ] ذلك في الجملة ويحتمل أن يكون الذي تفرد به القول الخاص ، قال الخطابي : لا تعرف العامة التثويب إلا قول المؤذن : الصلاة خير من النوم لكن المراد به هنا الإقامة .

                                                                                                          ( حتى إذا قضي التثويب ) بالرفع نائب الفاعل والنصب مفعول ، ( أقبل حتى يخطر ) بفتح أوله وكسر الطاء كما ضبطه عياض عن المتقنين ، وقال : إنه الوجه ومعناه يوسوس ، وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به فخذيه قال : وسمعناه من أكثر الرواة بضم الطاء ، ومعناه المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله عما هو فيه ، وبهذا فسره الشارحون للموطأ ، وبالأول فسره الخليل ، وضعف الهجري في نوادره الضم وقال : هو يخطر بالكسر في كل شيء .

                                                                                                          ( بين المرء ونفسه ) أي قلبه وكذا هو للبخاري من وجه آخر في بدء الخلق ، قال الباجي : المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه فيها ، ( يقول ) الشيطان ( اذكر كذا اذكر كذا ) وفي رواية للبخاري ومسلم بواو العطف واذكر كذا للبخاري أيضا في صلاة السهو : اذكر كذا وكذا .

                                                                                                          ( لما لم يكن يذكر ) أي لشيء لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة ، وفي رواية لمسلم : لما لم يذكر من قبل ، وله أيضا من رواية عبد ربه عن الأعرج : فهناه ومناه ، وذكره من حاجاته ما لم يكن يذكر ، ومن ثم استنبط أبو حنيفة الذي شكى إليه أنه دفن مالا ثم لم يهتد لمكانه أن يصلي ويحرص على أن لا يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل فذكر مكان المال في الحال ، قيل : خصه بما يعلم دون ما لم يعلم ; لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق وجوده والذي يظهر أنه أعم من ذلك فيذكره لما سبق له به علم ليشغل باله به ، ولما لم يكن سبق له ليوقعه في الفكرة فيه ، وهذا أعم من أن يكون في أمور الدنيا أو في أمور الدين كالعلم ، لكن هل يشمل ذلك التفكر في معاني الآيات التي يتلوها ؟ لا يبعد ذلك ; لأن غرضه نقص خشوعه وإخلاصه بأي وجه كان .

                                                                                                          ( حتى يظل الرجل ) بالظاء المعجمة المفتوحة رواية الجمهور ، ومعناه في الأصل اتصاف المخبر عنه بالخبر نهارا ، لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى ، وفي رواية بالضاد الساقطة مكسورة أي ينسى ومنه أن تضل إحداهما أو يخطئ ، ومنه :لا يضل ربي ولا ينسى ( سورة طه : الآية 52 ) ومفتوحة أي يتحير من الضلال وهو الحيرة والمشهور الأول .

                                                                                                          ( إن يدري ) بكسر همزة " إن " النافية بمعنى لا ، وفي رواية التنيسي : لا يدري ، وروي بفتح الهمزة ونسبها ابن عبد البر لأكثر رواة الموطأ ووجهها بما تعقبه عليه جماعة ، وقال القرطبي : ليست رواية الفتح بشيء إلا مع رواية الضاد الساقطة فيكون أن والفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته وكذا قال عياض : لا يصح فتحها إلا على رواية يضل بكسر الضاد فتكون أن مع الفعل مفعوله أي يجهل درايته وينسى عدد ركعاته .

                                                                                                          ( كم صلى ) [ ص: 275 ] وللبخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن أبي هريرة حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا .

                                                                                                          واختلف العلماء في حكمة هروب الشيطان عند سماع الأذان والإقامة دون سماع القرآن والذكر في الصلاة فقيل حتى لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع صوته جن ولا إنس إلا شهد له كما تقدم .

                                                                                                          وقيل : نفورا عن سماع الأذان ثم يرجع موسوسا ليفسد على المصلي صلاته ، فصار من جنس فراره والجامع بينهما الاستخفاف .

                                                                                                          وقيل : لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة على السجود الذي أباه وعصى بسببه واعترض بأنه يعود قبل السجود ، فلو كان هروبه لأجله لم يعد إلا عند فراغه .

                                                                                                          وأجيب بأنه يهرب عند سماع الدعاء لذلك ليغالط نفسه بأنه لم يخالف أمرا ثم يرجع ليفسد على المصلي سجوده الذي أباه .

                                                                                                          وقيل : إنما يهرب لاتفاق الجميع على الإعلان بشهادة الحق وإقامة الشريعة ، واعترض بأن الاتفاق على ذلك حاصل قبل الأذان وبعده من جميع من يصلي .

                                                                                                          وأجيب بأن الإعلان أخص من الاتفاق ، فإن الإعلان المختص بالأذان لا يشاركه فيه غيره من الجهر بالتكبير والشهادة مثلا ، ولذا قال لعبد الله بن زيد : " ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا " أي اقعد بالمد والإطالة والإسماع ليعم الصوت ويطول أمد التأذين فيكثر الجمع ويفوت على الشيطان مقصوده من إلهاء الآدمي عن إقامة الصلاة في جماعة أو إخراجها عن وقتها أو وقت فضيلتها ، فيفر حينئذ وقد يئس أن يردهم عما أعلنوا به ، ثم يرجع لما طبع عليه من الأذى إلى الوسوسة .

                                                                                                          وقال ابن الجوزي : على الأذان هيئة يشتد انزعاج الشيطان بسببها ; لأنه لا يكاد يقع في الأذان رياء ولا غفلة عند النطق به لأن النفس لا تحضره ، بخلاف الصلاة فإن النفس تحضر فيها فيفتح لها الشيطان أبواب الوسوسة ، وقد ترجم عليه أبو عوانة في صحيحه : " الدليل على أن المؤذن في أذانه وإقامته منفي عنه الوسوسة والرياء لتباعد الشيطان منه " ، وقيل : لأن الأذان إعلام بالصلاة التي هي أفضل الأعمال بألفاظ هي من أفضل الذكر لا يزاد فيها ولا ينقص منها بل تقع على وفق الأمر فيفر من سماعها ، وأما الصلاة فلما يقع من كثير من الناس فيها من التفريط تمكن الخبيث من المفرط ، فلو قدر أن المصلي وفي جميع ما أمر به فيها لم يقربه فيها إن كان وحده وهو نادر ، وكذا إذا انضم إليه من هو مثله وهو أندر ، أشار إليه ابن أبي جمرة ، قال ابن بطال : ويشبه أن يكون الزجر عن الخروج من المسجد بعد الأذان من هذا المعنى لئلا يكون متشبها بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان ، وفهم بعض السلف من هذا الحديث الإتيان بصورة الأذان وإن لم يوجد فيه شروط الأذان من وقوعه في الوقت وغير ذلك ، ففي مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح قال : أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا أو صاحب لنا فناداه مناد من حائط باسمه فأشرف الذي معي على الحائط فلم ير شيئا فذكرت ذلك لأبي ، فقال : لو شعرت أنك تلقى [ ص: 276 ] هذا لم أرسلك ولكن إذا سمعت صوتا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص " ، وقال ابن عبد البر : قال مالك : استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم وكان لا يزال يصاب فيه الناس من الجن فلما وليهم شكوا ذلك إليه فأمرهم بالأذان وأن يرفعوا أصواتهم به ففعلوا فارتفع ذلك عنهم ، فهم عليه حتى اليوم .

                                                                                                          قال مالك : أعجبني ذلك من زيد ، وذكرت الغيلان عند عمر بن الخطاب فقال : " إن شيئا من الخلق لا يستطيع أن يتحول في غير خلقه ولكن للجن سحرة كما للإنس سحرة ، فإذا خشيتم شيئا من ذلك فأذنوا بالصلاة " وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ، ورواه في السهو عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج به ، ومسلم من طريق المغيرة الخزاعي عن أبي الزناد به ، ومن طريق الأعمش وسهيل كلاهما عن أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه .




                                                                                                          الخدمات العلمية