الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ خالف المقلدون أمر الله ورسوله وأئمتهم ]

الوجه العشرون : أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم ، وسلكوا ضد طريق أهل العلم ، أما أمر الله فإنه أمر برد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله ، والمقلدون قالوا : إنما نرده إلى من قلدناه ; وأما أمر رسوله فإنه صلى الله عليه وسلم أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين ، وأمر أن يتمسك بها ، ويعض عليها بالنواجذ ، وقال المقلدون : بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلدناه ، ونقدمه على كل ما عداه ، وأما هدي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلا واحدا في جميع أقواله ، ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يرد من أقواله شيئا ، ولا يقبل من أقوالهم شيئا ، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث ; وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم .

[ ص: 160 ] وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال خلفائه الراشدين ، فما وافق ذلك منهم قبلوه ، ودانوا الله به ، وقضوا به ، وأفتوا به ، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه ، وردوه ، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع ، من غير أن يلزموا بها أحدا ، ولا يقولوا : إنها الحق دون ما خالفها ، هذه طريقة أهل العلم سلفا وخلفا ، وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق ، وقلبوا أوضاع الدين ، فزيفوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه ، فعرضوها على أقوال من قلدوه ، فما وافقها منها قالوا لنا وانقادوا له مذعنين ، وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا : احتج الخصم بكذا وكذا ، ولم يقبلوه ، ولم يدينوا به .

واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن ، وتطلبوا لها وجوه الحيل التي تردها ، حتى إذا كانت موافقة لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنعوا على منازعهم ، وأنكروا عليه ردها بتلك الوجوه بعينها ، وقالوا : لا ترد النصوص بمثل هذا ، ومن له همة تسمو إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث الله به رسوله أين كان ومع من كان لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخلق الذميم .

[ ذم الله الذين فرقوا دينهم ]

الوجه الحادي والعشرون : إن الله سبحانه ذم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا { كل حزب بما لديهم فرحون } وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم ، بخلاف أهل العلم ; فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعا ، بل شيعة واحدة متفقة على طلب الحق ، وإيثاره عند ظهوره ، وتقديمه على كل ما سواه ، فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدهم وطريقهم ; فالطريق واحد ، والقصد واحد ، والمقلدون بالعكس : مقاصدهم شتى ، وطرقهم مختلفة ، فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق .

[ ذم الله الذين تقطعوا أمرهم زبرا ]

الوجه الثاني والعشرون : أن الله سبحانه ذم الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ، والزبر : الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن كتاب الله وما بعث الله به رسوله ، فقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم : أن يأكلوا من [ ص: 161 ] الطيبات ، وأن يعملوا صالحا ، وأن يعبدوه وحده ، وأن يطيعوا أمره وحده ، وأن لا يتفرقوا في الدين ; فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك ، ممتثلين لأمر الله ، قابلين لرحمته ، حتى نشأت خلوف قطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب مما لديهم فرحون ، فمن تدبر هذه الآيات ونزلها على الواقع تبين له حقيقة الحال ، وعلم من أي الحزبين هو ، والله المستعان .

الوجه الثالث والعشرون : أن الله سبحانه قال : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } فخص هؤلاء بالفلاح دون من عداهم ، والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله ، لا الداعون إلى رأي فلان وفلان .

[ ذم الله من أعرض عن التحاكم إليه ]

الوجه الرابع والعشرون : أن الله سبحانه ذم من إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره ، وهذا شأن أهل التقليد ، قال تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } فكل من أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله ورسوله إلى غيره فله نصيب من هذا الذم ; فمستكثر ومستقل .

[ الحق في واحد من الأقوال ]

الوجه الخامس والعشرون : أن يقال لفرقة التقليد : " دين الله عندكم واحد وهو في القول وضده ، فدينه هو الأقوال المختلفة المتضادة التي يناقض بعضها بعضا ، ويبطل بعضها بعضا ، كلها دين الله " ؟ فإن قالوا : " بلى ، هذه الأقوال المتضادة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضا كلها دين الله " خرجوا عن نصوص أئمتهم ; فإن جميعهم على أن الحق في واحد من الأقوال ، كما أن القبلة في جهة من الجهات ، وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول الصريح ، وجعلوا دين الله تابعا لآراء الرجال .

وإن قالوا : " الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد ، وهو ما أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده ، كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة ، فمن وافقه فهو المصيب وله أجران ، ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه " .

قيل لهم : فالواجب إذا طلب الحق ، وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان ; لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة .

وتقواه : فعل ما أمر [ ص: 162 ] به وترك ما نهى عنه ; فلا بد أن يعرف العبد ما أمر به ليفعله وما نهي عنه ليجتنبه وما أبيح له ليأتيه . ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلب وتحر للحق ، فإذا لم يأت بذلك فهو في عهدة الأمر ، ويلقى الله ولما يقض ما أمره .

[ دعوة رسول الله عامة ]

الوجه السادس والعشرون : أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة ، والواجب على من بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه ، وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال .

ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يعرضون ما يسمعون منه صلى الله عليه وسلم على أقوال علمائهم ، بل لم يكن لعلمائهم قول غير قوله ، ولم يكن أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلا ، وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به ، وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة .

ومعلوم أن هذا الواجب لم ينسخ بعد موته ، ولا هو مختص بالصحابة ; فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية