الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الثالثة : لا يجوز بيع اللحم بالحيوان الذي يجوز أكله من جنسه .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا مذهب أكثر العلماء : منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد . وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : يجوز بيع اللحم بالحيوان ; لأن الحيوان غير ربوي ، فأشبه بيعه باللحم بيع اللحم بالأثمان .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج الجمهور بما رواه مالك في الموطأ ، عن زيد بن أسلم ، عن سعيد بن المسيب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان . وفي " الموطأ " أيضا ، عن مالك ، عن داود بن الحصين : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : من ميسر أهل الجاهلية بيع الحيوان باللحم بالشاة والشاتين . وفي " الموطأ " أيضا ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن سعيد بن المسيب : أنه كان يقول : نهي عن بيع الحيوان باللحم . قال أبو الزناد : فقلت لسعيد بن المسيب : أرأيت رجلا اشترى شارفا بعشر شياه ؟ ، فقال سعيد : إن كان اشتراها لينحرها فلا خير في ذلك . قال أبو الزناد : وكل من أدركت من الناس ينهون عن بيع الحيوان باللحم . قال أبو الزناد : وكان ذلك يكتب في عهود العمال في زمان أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل ينهون عن ذلك . اهـ ، من الموطأ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن قدامة في المغني : لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وقول فقهاء المدينة السبعة . وحكي عن مالك : أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معد لللحم ويجوز بغيره . وقال أبو حنيفة : يجوز مطلقا ; لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه ; فأشبه بيع اللحم بالدراهم ، أو بلحم من غير جنسه . ولنا ما روي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن بيع اللحم بالحيوان " ، رواه مالك في الموطأ ، عن زيد بن أسلم ، عن سعيد بن المسيب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن عبد البر : هذا أحسن أسانيده . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه نهى أن يباع حي بميت " ذكره الإمام أحمد . وروي عن ابن عباس : " أن جزورا نحرت فجاء رجل بعناق ، فقال أعطوني جزءا بهذه العناق - فقال أبو بكر : لا يصلح [ ص: 347 ] هذا ، قال الشافعي : لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك . وقال أبو الزناد : كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان ; ولأن اللحم نوع فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز ; كبيع السمسم بالشيرج اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب المهذب : ولا يجوز بيع حيوان يؤكل لحمه بلحمه ، لما روى سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يباع حي بميت " ، وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - ، فجاء رجل بعناق فقال : أعطوني بها لحما فقال أبو بكر : لا يصلح هذا " ; ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله ; فلم يجز كبيع الشيرج بالسمسم ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن السبكي في تكملته لشرح المهذب : حديث سعيد بن المسيب رواه أبو داود من طريق الزهري ، عن سعيد ، كما ذكره المصنف ، ورواه مالك في الموطأ ، والشافعي في المختصر والأم ، وأبو داود من طريق زيد بن أسلم ، عن سعيد بن المسيب : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان " ، هذا لفظ الشافعي عن مالك ، وأبي داود ، عن القعنبي ، عن مالك ، وكذلك هو في موطأ ابن وهب . ورأيت في موطأ القعنبي عن بيع الحيوان باللحم ، والمعنى واحد ، وكلا الحديثين - أعني : رواية الزهري وزيد بن أسلم - مرسل ، ولم يسنده واحد عن سعيد . وقد روي من طرق أخر ، منها عن الحسن ، عن سمرة : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع الشاة باللحم " ، رواه الحاكم في المستدرك ، وقال : رواته عن آخرهم أئمة حفاظ ثقات . وقد احتج البخاري بالحسن عن سمرة ، وله شاهد مرسل في الموطأ ، هذا كلام الحاكم . ورواه البيهقي في سننه الكبير ، وقال : هذا إسناد صحيح . ومن أثبت سماع الحسن عن سمرة عده موصولا . ومن لم يثبته فهو مرسل جيد انضم إلى مرسل سعيد . ومنها عن سهل بن سعد قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع اللحم بالحيوان " ، رواه الدارقطني ، وقال : تفرد به يزيد بن مروان ، عن مالك بهذا الإسناد ولم يتابع عليه ، وصوابه في الموطأ عن ابن المسيب مرسلا . وذكره البيهقي في سننه الصغير ، وحكم بأن ذلك من غلط يزيد بن مروان ، ويزيد المذكور تكلم فيه يحيى بن معين . وقال ابن عدي : وليس هذا بذلك المعروف . ومنها عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نهى عن بيع الحيوان باللحم " ، قال عبد الحق : أخرجه البزار في مسنده من رواية ثابت بن زهير عن نافع ، وثابت رجل من أهل البصرة منكر الحديث لا يستقل به . ذكره أبو حاتم الرازي . انتهى محل الغرض من كلام صاحب تكملة المجموع .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 348 ] قال مقيده - عفا الله عنه - : لا يخفى أن هذا الذي ذكرنا يثبت به منع بيع اللحم بالحيوان . أما على مذهب من يحتج بالمرسل : كمالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، فلا إشكال ، وأما على مذهب من لا يحتج بالمرسل : فمرسل سعيد بن المسيب حجة عند كثير ممن لا يحتج بالمرسل ، ولا سيما أنه اعتضد بحديث الحسن عن سمرة . فعلى قول من يصحح سماع الحسن عن سمرة ; فلا إشكال في ثبوت ذلك ; لأنه حينئذ حديث صحيح متصل وأما على قول من لا يثبت سماع الحسن عن سمرة - فأقل درجاته أنه مرسل صحيح ، اعتضد بمرسل صحيح . ومثل هذا يحتج به من يحتج بالمرسل ومن لا يحتج به ، وقد قدمنا في " سورة المائدة " ، كلام العلماء في سماع الحسن عن سمرة ، وقدمنا في " سورة الأنعام " أن مثل هذا المرسل يحتج به بلا خلاف عنه الأئمة الأربعة ، فظهر بهذه النصوص : أن بيع الحيوان باللحم من جنسه لا يجوز ; خلافا لأبي حنيفة . وأما إن كان من غير جنسه كبيع شاة بلحم حوت ، أو بيع طير بلحم إبل فهو جائز عند مالك ; لأن المزابنة تنتفي باختلاف الجنس ، وحمل معنى الحديث على هذا وإن كان ظاهره العموم . ومذهب الشافعي مع اختلاف الجنس فيه قولان : أحدهما : جواز بيع اللحم بالحيوان إذا اختلف جنسهما .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : المنع مطلقا لعموم الحديث . ومذهب أحمد في المسألة ذكره ابن قدامة في المغني بقوله : وأما بيع اللحم بحيوان من غير جنسه فظاهر كلام أحمد والخرقي : أنه لا يجوز ; فإن أحمد سئل عن بيع الشاة باللحم ، فقال : لا يصح ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ، نهى أن يباع حتى بميت " ، واختار القاضي جوازه ، وللشافعي فيه قولان . واحتج من منعه بعموم الأخبار ، وبأن اللحم كله جنس واحد ومن أجازه ، قال : مال الربا بيع بغير أصله ولا جنسه ، فجاز كما لو باعه بالأثمان . وإن باعه بحيوان غير مأكول اللحم جاز في ظاهر قول أصحابنا ، وهو قول عامة الفقهاء . انتهى كلام صاحب المغني .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - : قد عرفت مما تقدم أن بعض العلماء قال : إن اللحم كله جنس واحد . وبعضهم قال : إن اللحوم أجناس . فعلى أن اللحم جنس واحد ; فمنع بيع الحيوان باللحم هو الظاهر . وعلى أن اللحوم أجناس مختلفة ; فبيع اللحم بحيوان من غير جنسه الظاهر فيه الجواز ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم " ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 349 ] تنبيه .

                                                                                                                                                                                                                                      اشترط المالكية في منع بيع الحيوان باللحم من جنسه : إلا يكون اللحم مطبوخا . فإن كان مطبوخا : جاز عندهم بيعه بالحيوان من جنسه ، وهو معنى قول خليل في مختصره . وفسد منهي عنه إلا بدليل كحيوان بلحم جنسه إن لم يطبخ . واحتجوا لذلك ; بأن الطبخ ينقل اللحم عن جنسه ; فيجوز التفاضل بينه وبين اللحم الذي لم يطبخ ; فبيعه بالحيوان من باب أولى . هكذا يقولون . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية