الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد أعيدت بشارة الذين اجتنبوا الطاغوت تفصيلا للإجمال الواقع من قبل .

وافتتح الإخبار عنهم بحرف الاستدراك لزيادة تقرير الفارق بين حال المؤمنين وحال المشركين والمضادة بينهما ، فحرف الاستدراك هنا لمجرد الإشعار بتضاد الحالين ليعلم السامع أنه سيتلقى حكما مخالفا لما سبق كما تقدم في قوله تعالى ولكن انظر إلى الجبل في سورة الأعراف ، وقوله ولكن كره الله انبعاثهم في سورة براءة ، فحصل في قضية الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت تقرير على تقرير ابتدئ في الإشارتين في قوله أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ثم بما أعقب من تفريع حال أضدادهم على ذكر أحوالهم ثم بالاستدراك الفارق بين حالهم وحال أضدادهم .

والمراد بالذين اتقوا ربهم : هم الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وأنابوا إلى الله واتبعوا أحسن القول واهتدوا بهدي الله وكانوا أولي ألباب ، فعدل عن الإتيان بضمير " هم " هنا إلى الموصول لقصد مدحهم بمدلول الصلة وللإيماء إلى أن الصلة سبب للحكم المحكوم به على الموصول وهو نوالهم الغرف .

وعدل عن اسم الجلالة إلى وصف الرب المضاف إلى ضمير المتقين لما في تلك الإضافة من تشريفهم برضى ربهم عنهم .

واللام في " لهم " للاختصاص . والمعنى : أنها لهم في الجنة ، أي : أعدت لهم في الجنة .

والغرف : جمع غرفة ، بضم الغين وسكون الراء ( وهي البيت المرتكز على بيت آخر ، ويقال لها العلية بضم العين وكسرها وبكسر اللام مشددة والتحتية كذلك ) [ ص: 374 ] وتقدمت الغرفة في آخر سورة الفرقان .

ومعنى من فوقها غرف أنها موصوفة باعتلاء غرف عليها وكل ذلك داخل في حيز لام الاختصاص ، فالغرف التي فوق الغرف هي لهم أيضا لأن ما فوق البناء تابع له وهو المسمى بالهواء في اصطلاح الفقهاء . فالمعنى : لهم أطباق من الغرف ، وذلك مقابل ما جعل لأهل النار في قوله لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل .

وخولف بين الحالتين : فجعل للمتقين غرف موصوفة بأنها فوقها غرف ، وجعلت للمشركين ظلل من النار ، وعطف عليها أن من تحتهم ظللا للإشارة إلى أن المتقين متنعمون بالتنقل في تلك الغرف ، وإلى أن المشركين محبوسون في مكانهم ، وأن الظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم لتتظاهر الظلل بتوجيه لفح النار إليه من جميع جهاتهم .

والمبنية : المسموكة الجدران بحجر وجص ، أو حجر وتراب ، أو بطوب مشمس ثم توضع عليها السقف ، وهذا نعت لغرف ، التي فوقها غرف . ويعلم منه أن الغرف المعتلى عليها مبنية بدلالة الفحوى . وقد تردد المفسرون في وجه وصف الغرف مع أن الغرفة لا تكون إلا من بناء ، ولم يذهبوا إلى أنه وصف كاشف ، ولهم العذر في ذلك لقلة جدواه فقيل : ذكر المبنية للدلالة على أنها غرف حقيقية لا أشياء مشابهة الغرف فرقا بينهما وبين الظلل التي جعلت للذين خسروا يوم القيامة فإن ظللهم كانت من نار فلا يظن السامع أن غرف المتقين مجاز عن سحابات من الظل أو نحو ذلك لعدم الداعي إلى المجاز هنا بخلافه هنالك لأنه اقتضاه مقام التهكم .

وقال في الشاف : " مبنية " مثل المنازل اللاصقة للأرض ، أي : فذكر الوصف تمهيدا لقوله " تجري من تحتها الأنهار " لأن المعروف أن الأنهار لا تجري إلا تحت المنازل السفلية ؛ أي : لم يفت الغرف شيء من محاسن المنازل السفلية .

وقيل : أريد أنها مهيأة لهم من الآن . فهي موجودة لأن اسم المفعول كاسم [ ص: 375 ] الفاعل في اقتضائه الاتصاف بالوصف في زمن الحال فيكون إيماء إلى أن الجنة مخلوقة من الآن .

ويجوز عندي أن يكون الوصف احترازا عن نوع من الغرف تكون نحتا في الحجر في الجبال : مثل غرف ثمود ، ومثل : ما يسميه أهل الجنوب التونسي غرفا ، وهي بيوت منقورة في جبال مدنين ومطماطة وتطاوين وانظر هل تسمى تلك البيوت غرفا في العربية ، فإن كتب اللغة لم تصف مسمى الغرفة وصفا شافيا .

ويجوز أن يكون " مبنية " وصفا للغرف باعتبار ما دل عليه لفظها من معنى المبني المعتلي فيكون الوصف دالا على تمكن المعنى الموصوف ، أي : مبنية بناء بالغا الغاية في نوعه كقولهم : ليل أليل ، وظل ظليل .

وجري الأنهار من تحتها من كمال حسن منظرها للمطل منها . ومعنى من تحتها : أن الأنهار تمر على ما يجاور تحتها ، كما تقدم في قوله تعالى جنات تجري من تحتها الأنهار في آل عمران ، فأطلق اسم " تحت " على مجاوره .

ويجوز أن يكون المعنى : تجري من تحت أسسها الأنهار ، أي : تخترق أسسها وتمر فيها وفي ساحاتها ، وذلك من أحسن ما يرى في الديار كديار دمشق وقصر الحمراء بالأندلس وديار أهل الترف في مدينة فاس فيكون إطلاق " تحت " حقيقة .

والمعنى : أن كل غرفة منها يجري تحتها نهر فهو من مقابلة الجمع ليقسم على الآحاد ، وذلك بأن يصعد الماء إلى كل غرفة فيجري تحتها .

و " وعد الله " مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لنفسه لأن قوله " لهم غرف " في معنى : وعدهم الله غرفا وعدا منه . ويجوز انتصابه على الحال من " غرف " على حد قوله " وعدا علينا " ، وإضافة " وعد " إلى اسم الجلالة مؤذنة بأنه وعد موفى به فوقعت جملة لا يخلف الله الميعاد بيانا لمعنى " وعد الله " .

والميعاد : مصدر ميمي بمعنى الوعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية