الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ( 165 ) )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأه عامة أهل المدينة والشام : "ولو ترى الذين ظلموا " بالتاء "إذ يرون العذاب " بالياء " أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " بفتح "أن " و "أن " كلتيهما - بمعنى : ولو ترى يا محمد [ ص: 282 ] الذين كفروا وظلموا أنفسهم ، حين يرون عذاب الله ويعاينونه "أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " .

ثم في نصب "أن " و "أن " في هذه القراءة وجهان : أحدهما : أن تفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله ، لأقروا - ومعنى ترى : تبصر - أن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب . ويكون الجواب حينئذ - إذا فتحت "أن " على هذا الوجه - متروكا ، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه ، ويكون المعنى ما وصفت . فهذا أحد وجهي فتح "أن " ، على قراءة من قرأ : "ولو ترى " ب "التاء " .

والوجه الآخر في الفتح : أن يكون معناه : ولو ترى ، يا محمد ، إذ [ ص: 283 ] يرى الذين ظلموا عذاب الله ، لأن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب ، لعلمت مبلغ عذاب الله . ثم تحذف "اللام " ، فتفتح بذلك المعنى ، لدلالة الكلام عليها .

وقرأ ذلك آخرون من سلف القراء : "ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعا وإن الله شديد العذاب " . بمعنى : ولو ترى ، يا محمد ، الذين ظلموا حين يعاينون عذاب الله ، لعلمت الحال التي يصيرون إليها . ثم أخبر تعالى ذكره خبرا مبتدأ عن قدرته وسلطانه ، بعد تمام الخبر الأول فقال : "إن القوة لله جميعا " في الدنيا والآخرة ، دون من سواه من الأنداد والآلهة ، "وإن الله شديد العذاب " لمن أشرك به ، وادعى معه شركاء ، وجعل له ندا .

وقد يحتمل وجها آخر في قراءة من كسر "إن " في "ترى " بالتاء . وهو أن يكون معناه : ولو ترى ، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون : إن القوة لله جميعا وإن الله شديد العذاب . ثم تحذف "القول " وتكتفي منه بالمقول .

وقرأ ذلك آخرون : "ولو يرى الذين ظلموا " بالياء "إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " بفتح "الألف " من "أن " "وأن " ، بمعنى : ولو يرى الذين ظلموا عذاب الله الذي أعد لهم في جهنم ، لعلموا حين يرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ، إذ يرون العذاب . فتكون "أن " الأولى منصوبة لتعلقها بجواب "لو " المحذوف ، ويكون الجواب متروكا ، وتكون الثانية معطوفة على الأولى . وهذه قراءة عامة القراء الكوفيين والبصريين وأهل مكة .

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن تأويل قراءة من قرأ : "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " بالياء في "يرى " وفتح "الألفين " في "أن " "وأن " - : ولو يعلمون ، لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ، فإذا قال : "ولو ترى " ، فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم .

ولو كسر "إن " على الابتداء ، إذا قال : "ولو يرى " جاز ، لأن "لو يرى " ، لو يعلم .

وقد تكون "لو " في معنى لا يحتاج معها إلى شيء . تقول للرجل : "أما والله لو يعلم ، ولو تعلم " كما قال الشاعر :


إن يكن طبك الدلال ، فلو في سالف الدهر والسنين الخوالي!

[ ص: 284 ]

هذا ليس له جواب إلا في المعنى ، وقال الشاعر


وبحظ مما نعيش ، ولا     تذهب بك الترهات في الأهوال



فأضمر : فعيشي .

قال : وقرأ بعضهم : "ولو ترى " ، وفتح "أن " على "ترى " . وليس بذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ، ولكن أراد أن يعلم ذلك الناس ، كما قال تعالى ذكره : ( أم يقولون افتراه ) [ سورة السجدة : 3 ] ، ليخبر الناس عن جهلهم ، وكما قال : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) [ سورة البقرة : 107 ] .

قال أبو جعفر : وأنكر قوم أن تكون "أن " عاملا فيها قوله : "ولو يرى " . وقالوا : إن الذين ظلموا قد علموا حين يرون العذاب أن القوة لله جميعا ، فلا وجه لمن تأول ذلك : ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله . وقالوا : إنما عمل في "أن " جواب "لو " الذي هو بمعنى "العلم " ، لتقدم "العلم " الأول . [ ص: 285 ]

وقال بعض نحويي الكوفة : من نصب : "أن القوة لله وأن الله شديد العذاب " ممن قرأ : "ولو يرى " بالياء ، فإنما نصبها بإعمال "الرؤية " فيها ، وجعل "الرؤية " واقعة عليها . وأما من نصبها ممن قرأ : "ولو ترى " بالتاء ، فإنه نصبها على تأويل : لأن القوة لله جميعا ، ولأن الله شديد العذاب . قال : ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء ، فإنه يكسرهما على الخبر .

وقال آخرون منهم : فتح "أن " في قراءة من قرأ : "ولو يرى الذين ظلموا " بالياء ، بإعمال "يرى " ، وجواب الكلام حينئذ متروك ، كما ترك جواب : ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض ) [ سورة الرعد : 31 ] ، لأن معنى الجنة والنار مكرر معروف . وقالوا : جائز كسر "إن " ، في قراءة من قرأ ب "الياء " ، وإيقاع "الرؤية " على "إذ " في المعنى ، وأجازوا نصب "أن " على قراءة من قرأ ذلك ب "التاء " ، لمعنى نية فعل آخر ، وأن يكون تأويل الكلام : "ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب " ، [ يرون ] أن القوة لله جميعا ، وزعموا أن كسر "إن " الوجه ، إذا قرئت : "ولو ترى " ب "التاء " على الاستئناف ، لأن قوله : "ولو ترى " قد وقع على "الذين ظلموا " .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك : "ولو ترى الذين ظلموا " - بالتاء من "ترى " - "إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " بمعنى : لرأيت أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب . فيكون قوله : "لرأيت " الثانية ، محذوفة مستغنى بدلالة قوله : "ولو ترى الذين ظلموا " ، عن ذكره ، إذ [ ص: 286 ] كان جوابا ل "لو " .

ويكون الكلام ، وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - معنيا به غيره . لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالما بأن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب . ويكون ذلك نظير قوله : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) [ سورة البقرة : 107 ] وقد بيناه في موضعه .

وإنما اخترنا ذلك على قراءة "الياء " ، لأن القوم إذا رأوا العذاب ، قد أيقنوا أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ، فلا وجه أن يقال : لو يرون أن القوة لله جميعا - حينئذ . لأنه إنما يقال : "لو رأيت " ، لمن لم ير ، فأما من قد رآه ، فلا معنى لأن يقال له : "لو رأيت " .

ومعنى قوله : "إذ يرون العذاب " ، إذ يعاينون العذاب ، كما : -

2412 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " ، يقول : لو عاينوا العذاب .

وإنما عنى تعالى ذكره بقوله : "ولو ترى الذين ظلموا " ، ولو ترى ، يا محمد ، الذين ظلموا أنفسهم ، فاتخذوا من دوني أندادا يحبونهم كحبكم إياي ، حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت لهم ، لعلمتم أن القوة كلها لي دون الأنداد والآلهة ، وأن الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئا ، ولا تدفع عنهم عذابا أحللت بهم ، وأيقنتم أني شديد عذابي لمن كفر بي ، وادعى معي إلها غيري .

التالي السابق


الخدمات العلمية