الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الخامسة

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن لهذا الدليل آثارا تاريخية ، وسنذكر هنا إن شاء الله بعضها .

                                                                                                                                                                                                                                      فمن ذلك أن هذا الدليل العظيم جاء في التاريخ أنه أول سبب لضعف المحنة العظمى على المسلمين في عقائدهم بالقول بخلق القرآن العظيم ، وذلك أن محنة القول بخلق القرآن نشأت في أيام المأمون ، واستفحلت جدا في أيام المعتصم ، واستمرت على ذلك في أيام الواثق ، وهي في جميع ذلك التاريخ قائمة على ساق وقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم ما وقع فيها من قتل بعض أهل العلم الأفاضل وتعذيبهم ، واضطرار بعضهم إلى المداهنة بالقول خوفا .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم ما وقع فيها لسيد المسلمين في زمنه " الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل " - تغمده الله برحمته الواسعة ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا - من الضرب المبرح أيام المعتصم ، وقد جاء أن أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة وكبح جماحها هو هذا الدليل العظيم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الكلام على ترجمة " أحمد بن أبي دؤاد " : أخبرنا محمد بن الفرج بن علي البزار ، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي ، حدثنا جعفر بن شعيب الشاشي ، حدثني محمد بن يوسف الشاشي ، حدثني إبراهيم بن منبه قال : سمعت طاهر بن خلف يقول : سمعت محمد بن الواثق الذي يقال له المهتدي بالله يقول : كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا ذلك المجلس ، فأتي بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي : ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه ) يعني ابن أبي دؤاد ( قال : فأدخل الشيخ والواثق في مصلاه فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال له : لا سلم الله عليك فقال : يا أمير المؤمنين ، بئس ما أدبك مؤدبك ، قال الله تعالى : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها [ 4 \ 86 ] ، والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها ، فقال ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، الرجل متكلم ، فقال له : كلمه ، فقال : يا شيخ ، ما تقول في القرآن ؟ قال الشيخ : لم تنصفني - يعني ولي السؤال - فقال له : سل : فقال [ ص: 503 ] له الشيخ : ما تقول في القرآن ؟ فقال : مخلوق ، فقال : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون ، أم شيء لم يعلموه ؟ فقال : شيء لم يعلموه ، فقال : سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي ، ولا الخلفاء الراشدون ، علمته أنت ؟ ! قال : فخجل ، فقال : أقلني والمسألة بحالها ، قال : نعم ، قال : ما تقول في القرآن ؟ فقال مخلوق ، فقال : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أو لم يعلموه ؟ فقال : علموه ولم يدعوا الناس إليه ، قال : أفلا وسعك ما وسعهم ؟ ! قال : ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول : هذا شيء لم يعلمه النبي ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون ، علمته أنت ؟ سبحان الله ، شيء علمه النبي وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم ؟ ثم دعا عمارا الحاجب ، فأمره أن يرفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار ، ويأذن له في الرجوع ، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد ، ولم يمتحن بعد ذلك أحدا . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن كثير في تاريخه هذه القصة عن الخطيب البغدادي ، ولما انتهى من سياقها قال : ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      ويستأنس لهذه القصة بما ذكره الخطيب وغيره : من أن الواثق تاب من القول بخلق القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير في البداية والنهاية : قال الخطيب : وكان ابن أبي دؤاد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة ، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن : قال : ويقال إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته ، فأخبرني عبد الله بن أبي الفتح ، أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن ، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة ، حدثني حامد بن العباس ، عن رجل عن المهتدي : أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن ، وعلى كل حال فهذه القصة لم تزل مشهورة عند العلماء صحيحة الاحتجاج ، فيها إلقام الخصم الحجر .

                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل هذه القصة التي ألقم بها هذا الشيخ - الذي كان مكبلا بالقيود يراد قتله - أحمد بن أبي دؤاد حجرا ، هو هذا الدليل العظيم الذي هو السبر والتقسيم . فكان الشيخ المذكور يقول لابن أبي دؤاد : مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو غير [ ص: 504 ] عالمين بها ولا واسطة بين العلم وغيره ، فلا قسم ثالث ألبتة ، ثم إنه رجع بالسبر الصحيح إلى القسمين المذكورين فبين أن السبر الصحيح يظهر أن أحمد بن أبي دؤاد ليس على كل تقدير من التقديرين .

                                                                                                                                                                                                                                      أما على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بها هو وأصحابه ، وتركوا الناس ولم يدعوهم إليها ، فدعوة ابن أبي دؤاد إليها مخالفة لما كان عليه النبي وأصحابه من عدم الدعوة لها ، وكان يسعه ما وسعهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على كون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير عالمين بها ، فلا يمكن لابن أبي دؤاد أن يدعي أنه عالم بها مع عدم علمهم بها ، فظهر ضلاله على كل تقدير ، ولذلك سقط من عين الواثق ، وترك الواثق لذلك امتحان أهل العلم ، فكان هذا الدليل العظيم أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى ، حتى أزالها الله بالكلية على يد المتوكل رحمه الله ، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن آثار هذا الدليل التاريخية ما ذكره بعض المؤرخين ، من أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واش إلى عبيد الله بن زياد ، فأدخل ابن زياد الواشي في محل قريب من مجلسه ، ثم نادى ابن همام السلولي وقال له : ما حملك على أن تقول في كذا وكذا ؟ ! فقال السلولي : أصلح الله الأمير والله ما قلت شيئا من ذلك ، فأخرج ابن زياد الواشي ، وقال : هذا أخبرني أنك قلت ذلك ، فسكت ابن همام هنيهة ثم قال مخاطبا للواشي :


                                                                                                                                                                                                                                      وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت وإما قلت قولا بلا علم     فأنت من الأمر الذي كان بيننا
                                                                                                                                                                                                                                      بمنزلة بين الخيانة والإثم

                                                                                                                                                                                                                                      فقال ابن زياد : صدقت . وطرد الواشي .

                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل هذين البيتين الذين طرد بهما ابن زياد الواشي ولم يتعرض للسلولي بسوء بسببهما ، هو هذا الدليل العظيم المذكور ، فكأنه يقول له : لا يخلو قولك هذا من أحد أمرين : إما أن أكون ائتمنتك على سر فأفشيته ، وإما أن تكون قلته علي كذبا ، ثم رجع بالسبر إلى القسمين المذكورين فبين أن الواشي مرتكب ما لا ينبغي على كل تقدير من التقديرين ; لأنه إذا كان ائتمنه على سر فأفشاه فهو خائن له ، وإن كان قال عليه ذلك كذبا وافتراء فالأمر واضح .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية