الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الثانية والعشرون : فمن نفى رجلا عن جده أو عن أمه أو نسبه إلى شعب غير شعبه ، أو قبيلة غير قبيلته ، فذهب مالك : أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه ; لأنه لم يدع عليها الزنا ، ولم ينف نسبه عن أبيه ، وإن نفاه عن جده لزمه الحد ، ولا حد عنده في نسبة جنس لغيره ، ولو أبيض لأسود ، قال في " المدونة " : إن قال لفارسي : يا رومي أو يا حبشي ، أو نحو هذا لم يحد ، وقال ابن القاسم : اختلف عن مالك في هذا ، وإني أرى ألا حد عليه ، إلا أن يقول : يا ابن الأسود ، فإن لم يكن في آبائه أسود فعليه الحد ، وأما إن نسبه إلى حبشي ; كأن قال : يا ابن الحبشي وهو بربري ، فالحبشي والرومي في هذا سواء ، إذا كان بربريا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن يونس : وسواء قال : يا حبشي أو يا ابن الحبشي والرومي ، أو يا ابن الرومي ، فإنه لا يحد ، وكذلك عنه في كتاب محمد ، قال الشيخ المواق : هذا ما ينبغي أن تكون به الفتوى على طريقة ابن يونس ، فانظره أنت ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي ذكرنا من عدم حد من نسب جنسا إلى غيره هو مشهور مذهب مالك ، وقد [ ص: 453 ] نص عليه في المدونة ، ومحل هذا عنده إن لم يكن من العرب .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مالك في " المدونة " : من قال لعربي : يا حبشي ، أو يا فارسي ، أو يا رومي ، فعليه الحد ; لأن العرب تنسب إلى آبائها وهذا نفي لها عن آبائها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الفرق بين العربي وغيره المذكور عن مالك لا يتجه كل الاتجاه ، ووجه كون من قال لرومي : يا حبشي مثلا لا يحد ، أن الظاهر أن مراده أنه يشبه الحبشي في بعض أخلاقه أو أفعاله ، وهو استعمال معروف في العربية ، اهـ ، ومذهب أبي حنيفة أنه إن نفاه عن جده لا حد عليه ، بأن قال له : لست ابن جدك أنه لا حد عليه ; لأنه صادق إذ هو ابن أبيه لا جده ، وكذلك لو نسب جنسا إلى غيره ; كقوله لعربي : يا نبطي ، فلا حد عليه عنده على المشهور ، وكذلك عنده إذا نسبه لقبيلة أخرى غير قبيلته أو نفاه عن قبيلته ; لأنه يراد به التشبيه بتلك القبيلة التي نسبه لها في الأخلاق أو الأفعال ، أو عدم الفصاحة ، ونحو ذلك ، فلا يتعين قصد القذف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب " تبيين الحقائق " : وروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لرجل من قريش : يا نبطي ، فقال : لا حد عليه ، اهـ ، وكذلك لا يحد عند أبي حنيفة من قال لرجل : يا ابن ماء السماء ، أو نسبه إلى عمه أو خاله خلافا للمالكية ومن وافقهم القائلين بحد من نسبه لعمه ونحوه ، أو زوج أمه الذي هو ربيبه ; لأن العم والخال كلاهما كالأب في الشفقة ، وقد يريد التشبيه بالأب في المحبة والشفقة ، وقوله : ابن ماء السماء ، فإنه قد يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء ، قالوا : وكان عامر بن حارثة : يلقب بماء السماء لكرمه ، وأنه يقيم ماله في القحط مقام المطر ، قالوا : وسميت أم المنذر بن امرئ القيس بماء السماء ، لحسنها وجمالها ، وقيل لأولادها بني ماء السماء وهم ملوك العراق ، اهـ ، وإن نسبه لجده فلا حد عليه عند أبي حنيفة ، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك لصحة نسبته إلى جده ; كما هو واقع بكثرة على مر الأزمنة من غير نكير ، اهـ ، ومذهب الإمام أحمد : أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف عنه فيمن نفى رجلا عن قبيلته أو نسب جنسا لغيره ، قال ابن قدامة في " المغني " : وإذا نفى رجلا عن أبيه ، فعليه الحد ، نص عليه أحمد ، وكذلك إذا نفاه عن قبيلته ، وبهذا قال إبراهيم النخعي ، وإسحاق ، وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، وحماد ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد علمت الخلاف عن أبي حنيفة ، والمشهور عنه بما ذكرناه قريبا ، ثم قال ابن قدامة [ ص: 454 ] في " المغني " : والقياس يقتضي ألا يجب الحد بنفي الرجل عن قبيلته ; ولأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا ، فأشبه ما لو قال لأعجمي : إنك عربي ، ولو قال للعربي : أنت نبطي أو فارسي فلا حد عليه ، وعليه التعزير ، نص عليه أحمد ; لأنه يحتمل أنك نبطي اللسان أو الطبع ، وحكي عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحد كما لو نفاه عن أبيه ، والأول أصح ، وبه قال مالك ، والشافعي ; لأنه يحتمل غير القذف احتمالا كثيرا فلا يتعين صرفه إليه ، ومتى فسر شيئا من ذلك بالقذف فهو قاذف ، اهـ من " المغني " .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذا ، فاعلم أن المسألة ليست فيها نصوص من الوحي ، والظاهر أن ما احتمل غير القذف من ذلك لا يحد صاحبه ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات واحتمال الكلام غير القذف لا يقل عن شبهة قوية . وقد ذكر ابن قدامة في " المغني " : أن الأشعث بن قيس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول " : لا أوتى برجل يقول : إن قريشا ليست من كنانة إلا جلدته " ، اهـ ، وانظر إسناده .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية