الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 7 ] بسم الله الرحمن الرحيم

[ مقدمة المؤلف ]

أما بعد حمد الله بجميع محامده ، والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه ، فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها ، والتنبيه على نكت الخلاف فيها ، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع ، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع ، أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا ، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها ، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - إلى أن فشا التقليد .

وقبل ذلك فلنذكر كم أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام الشرعية ، وكم أصناف الأحكام الشرعية ، وكم أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف ; بأوجز ما يمكننا في ذلك .

فنقول : إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي - عليه الصلاة والسلام - بالجنس ثلاثة : إما لفظ ، وإما فعل ، وإما إقرار . وأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام فقال الجمهور : إن طريق الوقوف عليه هو القياس . وقال أهل الظاهر : القياس في الشرع باطل ، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له . ودليل العقل يشهد بثبوته ، وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية ، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية ، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى .

وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة : ثلاثة متفق عليها ، ورابع مختلف فيه . أما الثلاثة المتفق عليها : فلفظ عام يحمل على عمومه ، أو خاص يحمل على خصوصه ، أو لفظ عام يراد به الخصوص ، أو لفظ خاص يراد به العموم ، وفي هذا يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى ، وبالأدنى على الأعلى ، وبالمساوي على المساوي ; فمثال الأول قوله تعالى ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) فإن المسلمين اتفقوا على أن لفظ الخنزير متناول لجميع أصناف الخنازير ما لم يكن مما يقال عليه الاسم بالاشتراك ، مثل خنزير الماء . ومثال العام يراد به الخاص : قوله تعالى ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) فإن المسلمين اتفقوا على أن ليست الزكاة واجبة في جميع أنواع المال .

ومثال الخاص يراد به العام : قوله تعالى ( فلا تقل لهما أف ) وهو من باب التنبيه بالأدنى على [ ص: 8 ] الأعلى ، فإنه يفهم من هذا تحريم الضرب والشتم وما فوق ذلك ، وهذه إما أن يأتي المستدعي بها فعله بصيغة الأمر ، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به الأمر ، وكذلك المستدعي تركه ، إما أن يأتي بصيغة النهي ، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به النهي ، وإذا أتت هذه الألفاظ بهذه الصيغ ، فهل يحمل استدعاء الفعل بها على الوجوب أو على الندب - على ما سيقال في حد الواجب والمندوب إليه - أو يتوقف حتى يدل الدليل على أحدهما ؟ فيه بين العلماء خلاف مذكور في كتب أصول الفقه ، وكذلك الحال في صيغ النهي ، هل تدل على الكراهية أو التحريم ، أو لا تدل على واحد منهما ؟ فيه الخلاف المذكور أيضا .

والأعيان التي يتعلق بها الحكم إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد فقط ( وهو الذي يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص ، ولا خلاف في وجوب العمل به ) وإما أن يدل عليها بلفظ يدل على أكثر من معنى واحد ، وهذا قسمان : إما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء ، وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل ، ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما ، وإما أن تكون دلالته على بعض تلك المعاني أكثر من بعض ، وهذا يسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أكثر : ظاهرا ، ويسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أقل : محتملا . وإذا ورد مطلقا حمل على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل ، فيعرض الخلاف للفقهاء في أقاويل الشارع ، لكن ذلك من قبل ثلاثة معان : 1 - من قبل الاشتراك في لفظ العين الذي علق به الحكم . 2 - ومن قبل الاشتراك في الألف واللام المقرونة بجنس تلك العين ، هل أريد بها الكل أو البعض ؟ . 3 - ومن قبل الاشتراك الذي في ألفاظ الأوامر والنواهي .

وأما الطريق الرابع فهو أن يفهم من إيجاب الحكم لشيء ما نفي ذلك الحكم عما عدا ذلك الشيء ، أو من نفي الحكم عن شيء ما إيجابه لما عدا ذلك الشيء الذي نفي عنه ، وهو الذي يعرف بدليل الخطاب ، وهو أصل مختلف فيه ، مثل قوله - عليه الصلاة والسلام - " في سائمة الغنم الزكاة " فإن قوما فهموا منه أن لا زكاة في غير السائمة .

وأما القياس الشرعي فهو إلحاق الحكم الواجب لشيء ما بالشرع بالشيء المسكوت عنه لشبهه بالشيء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم أو لعلة جامعة بينهما ، ولذلك كان القياس الشرعي صنفين : قياس شبه ، وقياس علة .

والفرق بين القياس الشرعي واللفظ الخاص يراد به العام : أن القياس يكون على الخاص الذي أريد به الخاص ، فيلحق به غيره ، ( أعني أن المسكوت عنه يلحق بالمنطوق به من جهة الشبه الذي بينهما لا من جهة دلالة اللفظ ) لأن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من جهة تنبيه اللفظ ليس بقياس ، وإنما هو من باب دلالة اللفظ ، وهذان الصنفان يتقاربان جدا ، لأنهما إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به ، وهما يلتبسان على الفقهاء كثيرا جدا ، [ ص: 9 ] فمثال القياس : إلحاق شارب الخمر بالقاذف في الحد ، والصداق بالنصاب في القطع .

وأما إلحاق الربويات بالمقتات أو بالمكيل أو بالمطعوم فمن باب الخاص أريد به العام ، فتأمل هذا فإن فيه غموضا .

والجنس الأول هو الذي ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه ، وأما الثاني فليس ينبغي لها أن تنازع فيه ; لأنه من باب السمع ، والذي يرد ذلك يرد نوعا من خطاب العرب ، وأما الفعل : فإنه عند الأكثر من الطرق التي تتلقى منها الأحكام الشرعية ، وقال قوم : الأفعال ليست تفيد حكما إذ ليس لها صيغ ، والذين قالوا : إنها تتلقى منها الأحكام اختلفوا في نوع الحكم الذي تدل عليه ، فقال قوم : تدل على الوجوب ، وقال قوم : تدل على الندب ، والمختار عند المحققين أنها إن أتت بيانا لمجمل واجب دلت على الوجوب ، وإن أتت بيانا لمجمل مندوب إليه دلت على الندب ; وإن لم تأت بيانا لمجمل ، فإن كانت من جنس القربة دلت على الندب وإن كانت من جنس المباحات دلت على الإباحة ، وأما الإقرار : فإنه يدل على الجواز ، فهذه أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام أو تستنبط .

وأما الإجماع فهو مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة ، إلا أنه إذا وقع في واحد منها ولم يكن قطعيا نقل الحكم من غلبة الظن إلى القطع وليس الإجماع أصلا مستقلا بذاته من غير استناد إلى واحد من هذه الطرق ، لأنه لو كان كذلك لكان يقتضي إثبات شرع زائد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لا يرجع إلى أصل من الأصول المشروعة .

وأما المعاني المتداولة المتأدية من هذه الطرق اللفظية للمكلفين ، فهي بالجملة : إما أمر بشيء ، وإما نهي عنه ، وإما تخيير فيه .

والأمر إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بتركه سمي واجبا ، وإن فهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمي ندبا ، والنهي أيضا إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بالفعل سمي محرما ومحظورا ، وإن فهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمي مكروها .

فتكون أصناف الأحكام الشرعية المتلقاة من هذه الطرق خمسة : واجب ، ومندوب ، ومحظور ، ومكروه ، ومخير فيه وهو المباح .

وأما أسباب الاختلاف بالجنس فستة : أحدها : تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع : ( أعني : بين أن يكون اللفظ عاما يراد به الخاص ، أو خاصا يراد به العام ، أو عاما يراد به العام ، أو خاصا يراد به الخاص ) ، أو يكون له دليل خطاب ، أو لا يكون له .

والثاني الاشتراك الذي في الألفاظ ، وذلك إما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض ، وكذلك لفظ الأمر هل يحمل على الوجوب أو الندب ، ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو على الكراهية ، وأما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى ( إلا الذين تابوا ) فإنه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط ، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد ، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف .

والثالث : اختلاف الإعراب .

[ ص: 10 ] والرابع : تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز ، التي هي : إما الحذف ، وإما الزيادة ، وإما التقديم ، وإما التأخير ، وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة .

والخامس : إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة ، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة ، وتقييدها بالإيمان تارة .

والسادس : التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها الأحكام بعضها مع بعض وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات ، أو تعارض القياسات أنفسها ، أو التعارض الذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة : ( أعني معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس ، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس ، ومعارضة الإقرار للقياس ) .

قال القاضي - رضي الله عنه - : وإذ قد ذكرنا بالجملة هذه الأشياء ، فلنشرع فيما قصدنا له ، مستعينين بالله ، ولنبدأ من ذلك بكتاب الطهارة على عاداتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية