كانوا فريقين يصغون الزجاج على قعس الكواهل في أشداقها ضخم وآخرين على الماذي فوقهم
من نسج داود أو ما أورثت إرم
( إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ، ولو جرى على لفظ ( إذا حضر أحدكم الموت ) لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض ، فأصابته مصيبة الموت ، وإنما جاء الالتفات جمعا; لأن قوله ( أحدكم ) معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت ، والمعنى إذا سافرتم في الأرض لمصالحكم ومعايشكم . وظاهر الآية يقتضي أن استشهاد آخرين من غير المسلمين ، مشروط بالسفر في الأرض ، وحضور علامات الموت .
( تحبسونهما من بعد الصلاة ) الخطاب للمؤمنين ، لا لما دل عليه الخطاب في قوله ( إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم ) لأن من ضرب في الأرض وأصابه الموت ، ليس هو الحابس ( تحبسونهما ) صفة لآخران ، واعترض بين الموصوف والصفة بقوله ( إن أنتم . . . إلى الموت ) ، وأفاد الاعتراض; أن العدول إلى آخرين من غير الملة ، أو القرابة ، حسب اختلاف العلماء في ذلك ، إنما يكون مع ضرورة السفر ، وحلول الموت فيه . استغنى عن جواب ( إن ) . لما تقدم من قوله ( أو آخران من غيركم ) انتهى . وإلى أن ( تحبسونهما ) صفة . ذهب الحوفي وأبو البقاء ، وهو ظاهر كلام ابن عطية ، إذ لم يذكر غير قول أبي علي الذي قدمناه .
وقال : فإن قلت : ما موضع ( الزمخشري تحبسونهما ) ؟ قلت : هو استئناف كلام ، كأنه قيل : بعد اشتراط العدالة فيهما ، فكيف إن ارتبنا فيهما ؟ فقيل : ( تحبسونهما ) . وما قاله من الاستئناف ، أظهر من [ ص: 43 ] الوصف; لطول الفصل بالشرط ، والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته . وإنما قال الزمخشري : بعد اشتراط العدالة فيهما; لأنه اختار أن يكون قوله ، أو آخران من غيركم ، معناه أو عدلان آخران من غير القرابة . وتقدم من كلام الزمخشري أبي علي ; أن العدول إلى آخرين من غير الملة ، أو القرابة ، إنما يكون مع ضرورة السفر ، وحلول الموت فيه ، إلى آخر كلامه ، فظهر منه أن تقدير جواب الشرط هو ( إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ) فاستشهدوا آخرين من غيركم ، أو فالشاهدان آخران من غيركم . والظاهر أن الشرط قيد في شهادة اثنين ذوي عدل من المؤمنين ، أو آخرين من غير المؤمنين ، فيكون مشروعية الوصية للضارب في الأرض المشارف على الموت ، أن يشهد اثنين ، ويكون تقدير الجواب : إن أنتم ضربتم في الأرض ، فأصابتكم مصيبة الموت ، فاستشهدوا اثنين ، إما منكم ، وإما من غيركم . ولا يكون الشرط إذ ذاك قيدا في آخرين من غيرنا فقط ، بل هو قيد فيمن ضرب في الأرض ، وشارف الموت ، فيشهد اثنان منا ، أو من غيرنا . وقال : في الكلام محذوف ، تقديره : فأصابتكم مصيبة الموت ، وقد استشهدتموهما على الإيصاء . وقال ابن عباس ابن جبير تقديره; وقد أوصيتم . قيل : وهذا أولى لأن الشاهد لا يحلف ، والموصى يحلف . ومعنى ( تحبسونهما ) تستوثقونهما لليمين ، والخطاب لمن يلي ذلك من ولاة الإسلام ، وضمير المفعول عائد في قول على آخرين من غير المؤمنين ، وظاهر عوده على اثنين منا ، أو من غيرنا ، سواء كانا وصيين ، أو شاهدين ، وظاهر قوله من بعد الصلاة; أن الألف واللام للجنس ، أو من بعد أي صلاة ، وقد قيل : بهذا الظاهر ، وخص ذلك بصلاة دينهما ، وذلك تغليظ في اليمين . وقال ابن عباس الحسن : بعد العصر ، أو الظهر; لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما . وقال الجمهور هي صلاة العصر; لأنه وقت اجتماع الناس ، وكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، استحلف عديا وتميما بعد العصر عند المنبر ، ورجح هذا القول بفعله وبقوله في الصحيح : " " . وبأن التحليف كان معروفا بعدهما ، فالتقييد بالمعروف يغني عن التقييد باللفظ ، وبأن جميع الأديان يعظمون هذا الوقت ، ويذكرون الله فيه ، فتكون الألف واللام في هذا القول للعهد ، وكذا في قول من حلف على يمين كاذبة بعد العصر ، لقي الله وهو عليه غضبان الحسن .
( فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) ظاهره تقييد حلفهما بوجود الارتياب ، فمتى لم توجد الريبة ، فلا تحليف . وينبغي أن يحمل تحليف أبي موسى لليهوديين اللذين استشهدهما مسلم توفي على وصيته على أنه وقعت ريبة ، وإن لم يذكر ذلك في قصة ذلك المسلم . والفاء في قوله ( فيقسمان ) عاطفة هذه الجملة على قوله ( تحبسونهما ) هذا هو الظاهر . وقال أبو علي : وإن شئت لم تقدر الفاء لعطف جملة ، ولكن تجعله جزاء ، كقول : ذي الرمة
وإنسان عيني يحسر الماء تارة فيبدو وتارات يجم فيغرق
إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد بها أبدا ما دام فيها الجراضم
( فإن عثر على أنهما استحقا إثما ) أي فإن عثر بعد حلفهما على أنهما استحقا إثما; أي ذنبا بحنثهما في اليمين ، بأنها ليست مطابقة للواقع ( وعثر ) استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه وبعد أن لم يرج ، ولم يقصد ، كما تقول : على الخبير سقطت ووقعت على كذا . قال أبو علي : الإثم هنا ، هو الشيء المأخوذ; لأن أخذه إثم فسمي إثما ، كما يسمى ما أخذ بغير الحق ، مظلمة . قال : المظلمة اسم ما أخذ منك ، ولذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر انتهى . والظاهر أن الإثم هنا ليس الشيء المأخوذ ، بل الذنب الذي استحقا به أن يكونا من الآثمين الذي تبرآ أن يكونا منهم في قولهما ( سيبويه إنا إذا لمن الآثمين ) ولو كان الإثم هو الشيء المأخوذ ، ما قيل فيه : استحقا إثما; لأنهما ظلما ، وتعديا ، وذلك هو الموجب للإثم .
( فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان ) [ ص: 45 ] قرأ الحرميان والعربيان ( استحق ) مبنيا للفاعل ( والأوليان ) مثنى مرفوع تثنية الأولى ، ورويت هذه القراءة عن والكسائي أبي وعلي وعن وابن عباس ابن كثير في رواية قرة عنه . وقرأ حمزة وأبو بكر ( استحق ) مبنيا للمفعول ( والأولين ) جمع الأول . وقرأ الحسن ( استحق ) مبنيا للفاعل ، الأولان مرفوع ، تثنية أول . وقرأ الأوليين ، تثنية الأول ، فأما القراءة الأولى ، فقال ابن سيرين : ( فآخران ) فشاهدان آخران ( الزمخشري يقومان مقامهما من الذين استحق ) عليهم; أي من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه وهم الذين جني عليهم ، وهم أهل الميت ، وعترته . وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين ، حلف رجلين من ورثته أنه إناء صاحبهما ، وأن شهادتهما أحق من شهادتهما . ( والأوليان ) الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على هما الأوليان ، كأنه قيل : ومن هما ، فقيل ( الأوليان ) . وقيل : هما بدل من الضمير في ( يقومان ) أو من آخران ، ويجوز أن يرتفعا باستحق أي من الذين استحق عليهم ابتدأت الأوليين منهم للشهادة; لاطلاعهم على حقيقة الحال انتهى . وقد سبقه أبو علي إلى أن تخريج رفع ( الأوليان ) على تقدير هما الأوليان ، وعلى البدل من ضمير ( يقومان ) ، وزاد أبو علي وجهين آخرين : أحدهما; أن يكون ( الأوليان ) مبتدأ مؤخرا ، والخبر آخران يقومان مقامهما ، كأنه في التقدير فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان ، فيجيء الكلام ، كقولهم : تميمي أنا ، والوجه الآخر أن يكون ( الأوليان ) مسندا إليه ( استحق ) . قال أبو علي فيه شيء آخر ، وهو أن يكون ( الأوليان ) صفة لآخران; لأنه لما وصف خصص ، فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له انتهى . وهذا الوجه ضعيف لاستلزامه هدم ما كادوا أن يجمعوا عليه من أن النكرة لا توصف بالمعرفة ، ولا العكس . وعلى ما جوزه أبو الحسن يكون إعراب قوله : ( فآخران ) مبتدأ والخبر ( يقومان ) ويكون قد وصف بقوله من الذين ، أو يكون قد وصف بقوله ( يقومان ) ، والخبر ( من الذين ) ولا يضر الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر ، أو يكونان صفتين لقوله : ( فآخران ) ، ويرتفع آخران على خبر مبتدأ محذوف; أي فالشاهدان آخران ، ويجوز عند بعضهم أن يرتفع على الفاعل; أي فليشهد آخران . وأما مفعول ( استحق ) فتقدم تقدير أنه استحق عليهم الإثم ، ويعني أنه ضمير عائد على الإثم; لأن الإثم محذوف لأنه لا يجوز حذف المفعول الذي لم يسم فاعله ، وقد سبقه الزمخشري أبو علي والحوفي إلى هذا التقدير ، وأجازوا وجهين آخرين ، أحدهما : أن يكون التقدير استحق عليهم الإيصاء ، والثاني : أن يكون من الذين استحق عليهم الوصية . وأما ما ذكره من ارتفاع قوله ( الأوليان ) بـ ( استحق ) ، فقد أجازه الزمخشري أبو علي كما تقدم ، ثم منعه قال لأن المستحق إنما يكون الوصية أو شيئا منها . وأما ( الأوليان ) بالميت ، فلا يجوز أن يستحقا فيسند ( استحق ) إليهما ، إلا أن إنما رفع قوله الأوليان بـ ( استحق ) على تقدير حذف مضاف ناب عنه ( الأوليان ) ، فقدره استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال ، فيسوغ توجيهه ، وأجاز ذلك الزمخشري ، على أن يكون التقدير; من الذين استحق عليهم إثم الأولين ، وأجاز ابن جرير ابن عطية أيضا أن يرتفع ( الأوليان ) بـ ( استحق ) ، وطول في تقرير ذلك ، وملخصه أنه حمل استحق هنا على الاستعارة بأنه ليس استحقاقا حقيقة لقوله : ( استحقا إثما ) ، وإنما معناه أنهم غلبوا على المال بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته ، أو لأهل دينه ، فجعل تسورهم عليه استحقاقا مجازا ، والمعنى من الجماعة التي غابت ، وكان حقها أن تحضر وليها . قال : فلما غابت وانفرد هذا الموصي ، استحقت هذه الحال ، وهذان الشاهدان من غير أهل الدين الولاية ، وأمر الأوليين على هذه الجماعة ، ثم يبنى الفعل للمفعول على هذا المعنى إيجازا ، ويقوي هذا الغرض أن يعدى الفعل [ ص: 46 ] بعلى لما كان باقتدار ، وحمل هنا على الحال ، ولا يقال استحق منه أو فيه ، إلا في الاستحقاق الحقيقي على وجهه ، وأما استحق عليه ، فيقال في الحمل والغلبة والاستحقاق المستعار انتهى . والضمير في ( مقامهما ) عائد على شاهدي الزور ، و ( من الذين ) هم ولاة الميت . وقال النحاس في قول من قدر الذين استحق عليهم الإيصاء : هذا من أحسن ما قيل فيه; لأنه لم يجعل حرفا بدلا من حرف ، يعني أنه لم يجعل ( على ) بمعنى ( في ) ، ولا بمعنى ( من ) ، وقد قيل : بهما أي من الذين استحق منهم الإثم لقوله : ( إذا اكتالوا على الناس ) أي من الناس استحق عليهم الإثم ، وأجاز ابن العربي تقدير الإيصاء ، واختار أبو عبد الله الرازي وابن الفضل أن يكون التقدير من الذين استحق عليهم المال . قال أبو عبد الله : وقد أكثر الناس في أنه لم يوصف موالي بهذا الوصف ، وذكروا فيه قولا ، والأصح عندي فيه وجه واحد; وهو أنهم وصفوا بذلك بأنه لما أخذ مالهم استحق عليهم مالهم ، فإن من أخذ مال غيره ، فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال تعلق ملكه له ، فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليك ذلك المال انتهى . ( والأوليان ) بمعنى الأقربين إلى الميت ، أو الأوليان بالحلف; وذلك أن الوصيين ادعيا; أن مورث هذين الشاهدين باعهما الإناء ، وهما أنكرا ذلك ، فاليمين حق لهما ، كإنسان أقر لآخر بدين ، وادعى أنه قضاه ، فترد اليمين على الذي ادعى أولا; لأنه صار مدعى عليه . وتلخص في إعراب ( الأوليان ) على هذه القراءة وجوه الابتداء ، والخبر لمبتدأ محذوف ، والبدل من ضمير ( يقومان ) والبدل من ( آخران ) ، والوصف لـ ( آخران ) والمفعولية بـ ( استحق ) على حذف مضاف مختلف في تقديره .
وأما القراءة الثانية ، وهي بناء ( استحق ) للفاعل ، ورفع الأوليين ، فقال : معناه من الورثة الذين استحق عليهم أوليان من سهم بالشهادة أن يجردوهما لقيام الشهادة ، ويظهروا بهما كذب الكاذبين انتهى . الزمخشري
وقال ابن عطية : ما ملخصه ( الأوليان ) رفع بـ ( استحق ) ، وذلك على أن يكون المعنى ( من الذين استحق عليهم ) مالهم وتركهم شاهدا الزور ، فسميا أوليين; أي صيرهما عدم الناس أولى بهذا الميت وتركته ، فجازا فيها . أو يكون المعنى من الذين حق عليهم أن يكون الأوليان منهم ، فاستحق بمعنى حق ، كاستعجب وعجب . أو يكون ( استحق ) بمعنى سعى واستوجب فالمعنى من القوم الذين حضر أوليان منهم ، فاستحقا عليهم; أي استحقا لهم وسعيا فيه ، واستوجباه بأيمانهما وقربانهما انتهى . وقال بعضهم : المفعول محذوف; أي من الذين استحق عليهم الأوليان وصيتهما .
وأما القراءة الثالثة ، وهي قراءة ( استحق ) مبنيا للمفعول ، والأولين جمع الأول ، فخرج على أن الأولين وصف للذين . قال أبو البقاء : أو بدل من الضمير المجرور بعلى . قال : أو منصوب على المدح ، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة; لكونهم أحق بها انتهى . وهذا على تفسير أن قوله : ( الزمخشري أو آخران من غيركم ) أنهم الأجانب ، لا أنهم الكفار . وقال ابن عطية : معناها من القوم الذين استحق عليهم أمرهم; أي غلبوا عليه ، ثم وصفهم بأنهم أولون; أي في الذكر في هذه الآية ، وذلك في قوله : ( اثنان ذوا عدل منكم ) انتهى .
وأما القراءة الرابعة ، وهي قراءة الحسن ، فالأولان مرفوع باستحق . قال : ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي ، وهو الزمخشري أبو حنيفة وأصحابه; لا يرون ذلك ، فوجه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما أختانا ، فحلفا ، فلما ظهر كذبهما ، ادعيا الشراء فيما كتماه ، فأنكر الورثة ، فكان اليمين على الورثة; لإنكارهم الشراء .
وأما القراءة الخامسة ، وهي قراءة ; فانتصاب الأوليين على المدح . ابن سيرين
( فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ) أي فيقسم الآخران القائمان مقام شهادة التحريف أن ما أخبرا به حق ، والذي ذكرناه من نص القصة أحق مما ذكراه أولا وحرفا فيه وما زدنا على الحد . وقال : ليميننا أحق من يمينهما ومن [ ص: 47 ] قال : الشهادة في أول القصة ، ليست بمعنى اليمين ، قال هنا الشهادة يمين ، وسميت شهادة; لأنها يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة . قال ابن عباس : ( أحق ) أصح لكفرهما وإيماننا انتهى . ابن الجوزي
( إنا إذا لمن الظالمين ) ختما بهذه الجملة تبريا من الظلم ، واستقباحا له ، وناسب الظلم هنا لقولهما : ( وما اعتدينا ) . والاعتداء والظلم ، متقاربان ، وناسب ختم ما أقسم عليه شاهدا الزور بقوله ( لمن الآثمين ) لأن عدم مطابقة يمينهما للواقع ، وكتمهما الشهادة ، يجران إليهما الإثم .
( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) أي ذلك الحكم السابق ، ولما كان الشاهدان لهما حالتان : حالة يرتاب فيها إذا شهدا ، فإذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ، ويحلفان اليمين المشروعة في الآية ، قوبلت هذه الحالة بقوله : ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ) أي على ما شهدا حقيقة دون إنكار ، ولا تحريف ولا كذب ، وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة ، وكذبهما في الحلف ، فإذ ذاك لا يلتفت إلى أيمانهم ، وترد على شهود آخرين ، فعمل بأيمانهم ، وذلك بعد حلفهم وافتضاحهم فيها بظهور كذبهم ، قوبلت هذه الحالة بقوله : ( أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) . وكان العطف بأو; لأن الشاهدين إذا لم يتضح صدقهما ، لا يخلوان من إحدى هاتين الحالتين : إما حصول ريبة في شهادتهما ، وإما الاطلاع على خيانتهما; فلذلك كان العطف بأو الموضوعة لأحد الشيئين ، أو الأشياء . فالمعنى ما تقدم ذكره من الأحكام أقرب إلى حصول إقامة الشهادة على ما ينبغي ، أو خوف رد الأيمان إلى غيرهم ، فتسقط أيمانهم ولا تقبل . قال : ذلك كله يقرب اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل; لأنهم يخافون التحليف المغلظ بعقب الصلاة ، ثم يخافون الفضيحة ، ورد اليمين انتهى . وقيل : ذلك إشارة إلى تحليف الشاهدين في جمع من الناس . وقيل : إلى الحبس بعد الصلاة فقط . قال ابن عباس ابن عطية : ويظهر هذا من كلام ، وأول على هذا التأويل بمنزلة قولك : تحبني يا زيد ، أو تسخطني ، كأنك قلت : وإلا أسخطتني ، فكذلك معنى الآية ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وإلا خافوا رد الأيمان ) . وأما على مذهب السدي ; فالمعنى ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا ، أو أقرب إلى أن يخافوا انتهى . فتلخص أن ( أو ) تكون على بابها ، أو تكون بمعنى الواو . و ( يخافوا ) معطوف في هذين الوجهين على ( يأتوا ) ، أو يكون بمعنى إلى أن ، كقولك لألزمنك ، أو تقضيني حقي ، وهي التي عبر عنها ابن عباس ابن عطية بتلك العبارة السابقة من تقديرها بشرط محذوف فعله وجزاؤه ، وإذا كانت بمعنى إلى أن ، فهي عند البصريين على بابها من كونها لأحد الشيئين . إلا أن العطف بها لا يكون على الفعل الذي هو ( يأتوا ) ، لكنه يكون على مصدر متوهم ، وذلك على ما تقرر في علم العربية . وجمع الضمير في يأتوا وما بعده ، وإن كان السابق مثنى ، فقيل : هو عائد على الشاهدين باعتبار الصنف والنوع . وقيل : لا يعود إلى كليهما بخصوصيتهما ، بل إلى الناس الشهود ، والتقدير ذلك أدنى أن يحذر الناس الخيانة ، فيشهدوا بالحق; خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي .
( واتقوا الله واسمعوا ) أي احذروا عقاب الله تعالى ، واتخذوا وقاية منه ، بأن لا تخونوا ، ولا تحلفوا به كاذبين ، وأدوا الأمانة إلى أهلها ، واسمعوا سماع إجابة وقبول .
( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) إشارة إلى من حرف الشهادة أنه فاسق خارج عن طاعة الله ، فالله لا يهديه إلا إذا تاب ، فاللفظ عام ، والمعنى اشتراط انتفاء التوبة .