الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين ) ، أي : فقلنا خذها عطفا على ( كتبنا ) ويجوز أن يكون ( فخذها ) بدلا من قوله : ( فخذ ما آتيتك ) ، والضمير في ( فخذها ) عائد على ما على معنى ما لا على لفظها ، وأما إذا كان على إضمار فقلنا فيكون عائدا على ( الألواح ) ، أي : الألواح ، أو على كل شيء ؛ لأنه في معنى الأشياء ، أو على التوراة ، أو على الرسالات ، وهذه احتمالات مقولة أظهرها الأول ، ومعنى ( بقوة ) قال ابن عباس : بجد واجتهاد فعل أولي العزم ، وقال أبو العالية والربيع بن أنس : بطاعة ، وقال جويبر : بشكر ، وقال ابن عيسى : بعزيمة وقوة قلب ؛ لأنه إذا أخذها بضعف النية أداه إلى الفتور ، وهذا القول راجع لقول ابن عباس : أمر موسى أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه ، وقوله : ( بأحسنها ) ظاهره أنه أفعل التفضيل ، وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر ، وقيل : أحسنها الفرائض والنوافل وحسنها المباح ، وقيل : أحسنها الناسخ وحسنها المنسوخ ، ولا يتصور أن يكون المنسوخ حسنا إلا باعتبار ما كان عليه قبل النسخ أما بعد النسخ فلا يوصف بأنه حسن ؛ لأنه ليس مشروعا ، وقيل : الأحسن المأمور به دون المنهي عنه ، قال الزمخشري : على قوله الصيف أحر من الشتاء . انتهى . وذلك على تخيل أن في الشتاء حرا ويمكن الاشتراك فيهما في الحسن بالنسبة إلى الملاذ وشهوات النفس ، فيكون المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه ، ويكون المنهي عنه حسنا باعتبار الملاذ والشهوة فيكون بينهما قدر مشترك في الحسن ، وإن اختلف متعلقه ، وقيل : أحسنها هو أشبه ما تحتمله الكلمة من المعاني إذا كان لها احتمالات فتحمل على أولاها بالحق وأقربها إليه ، وقيل : أحسن هنا ليست أفعل التفضيل ، بل المعنى بحسنها كما قال :


بيتا دعائمه أعز وأطول

أي : عزيزة طويلة . قاله قطرب وابن الأنباري ، فعلى هذا أمروا بأن يأخذوا بحسنها وهو ما يترتب عليه الثواب دون المناهي التي يترتب على فعلها العقاب ، وقيل : أحسن هنا صلة ، والمعنى : يأخذوا بها ، وهذا ضعيف ؛ لأن الأسماء لا تزاد وانجزم ( يأخذوا ) على جواب الأمر وينبغي تأويل ( وأمر قومك ) ؛ لأنه لا يلزم من أمر قومه بأخذ أحسنها أن ( يأخذوا بأحسنها ) فلا ينتظم منه شرط وجزاء ، وبأحسنها متعلق بيأخذوا ، وذلك على إعمال الثاني ؛ لأن ( بأحسنها ) مقتضى لقوله : ( وأمر ) ولقوله : يأخذوا ، ويحتمل أن كون قوله : يأخذوا مجزوما على إضمار لام الأمر ، أي ليأخذوا ؛ لأن معنى ( وأمر قومك ) قل لقومك ، وذلك على مذهب الكسائي ، ومفعول ( يأخذوا ) محذوف لفهم المعنى ، أي : ( يأخذوا ) أنفسهم ( بأحسنها ) ، ويحتمل أن تكون الباء زائدة ، أي : يأخذوا أحسنها كقوله : لا يقرأن بالسور ، والوجه الأول أحسن ، وانظر إلى اختلاف متعلق الأمرين أمر موسى بأخذ جميعها ، فقيل : فخذها بقوة ، وأكد الأخذ بقوله : ( بقوة ) ، وأمروا هم أن ( يأخذوا بأحسنها ) ولم يؤكد ليعلم أن رتبة النبوة أشق في التكليف من رتبة التابع ؛ ولذلك فرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل وغير ذلك [ ص: 389 ] من التكاليف المختصة به ، والإراءة هنا من رؤية العين ، ولذلك تعدت إلى اثنين و ( دار الفاسقين ) مصر . قاله علي ، وقتادة ومقاتل وعطية العوفي ، والفاسقون فرعون وقومه .

قال الزمخشري : كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم . انتهى . وقيل : المعنى : سأريكم مصارع الكفار وذلك أنه لما أغرق فرعون وقومه أوحى إلى البحر أن اقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم مصارع الفاسقين ، وقال الكلبي : ما مروا عليه إذا سافروا من مصارع عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا ، وقال قتادة أيضا : الشام والمراد العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم ، وقال مجاهد ، والحسن : دار الفاسقين جهنم ، والمراد الكفرة بموسى وغيره ، وقال ابن زيد : سأريكم من رؤية القلب ، أي : سأعلمكم سير الأولين وما حل بهم من النكال ، وقيل : دار الفاسقين ، أي : ما دار إليه أمرهم ، وهذا لا يدرك إلا بالأخبار التي يحدث عنها العلم ، وهذا قريب من قول ابن زيد ، وقال ابن عطية : ولو كان من رؤية القلب لتعدى بالهمزة إلى ثلاثة ولو قال قائل : المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدر ، أي : مدمرة أو خربة أو مسعرة على قول من قال إنها جهنم قيل له : لا يجوز حذف هذا المفعول ولا الاقتصاد دونه ؛ لأنها داخلة على الابتداء ، والخبر ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى . انتهى . وحذف المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائز ، فيجوز في جواب هل أعلمت زيدا عمرا منطلقا أعلمت زيدا عمرا ويحذف منطلقا لدلالة الكلام السابق عليه ، وأما تعليله ؛ لأنها داخلة على الابتداء ، والخبر لا يدل على المنع ؛ لأن خبر المبتدأ يجوز حذفه اختصارا والثاني والثالث في باب أعلم يجوز حذف كل واحد منهما اختصارا ، وفي قوله : لأنها أي : سأريكم داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوز ، ويعني أنها قبل النقل بالهمزة فكانت داخلة على المبتدأ والخبر ، وقرأ الحسن : سأوريكم بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجهت هذه القراءة بوجهين ، أحدهما : ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطها ، فنشأ عنها الواو قال : ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه . انتهى . فيكون كقوله أدنو فأنظور رأى فأنظر ، وهذا التوجيه ضعيف ؛ لأن الإشباع بابه ضرورة الشعر ، والثاني : ما ذكره الزمخشري قال : وقرأ الحسن سأوريكم وهي لغة فاشية بالحجاز يقال : أورني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريت الزند ، كأن المعنى بينه لي وأناره لأستبينه . انتهى . وهي أيضا في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن ، وينبغي أن ينظر في تحقق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا ؟ وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير : سأورثكم ، قال الزمخشري : وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى : ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية