الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
( قول أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ) إمام الطائفة الأشعرية ، نذكر كلامه فيما وقفنا عليه من كتبه كالموجز والإبانة والمقالات وما نقله عنه أعظم الناس انتصارا له الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الكتاب الذي سماه تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري . ذكر قوله في كتاب الإبانة في أصول الديانة ، قال أبو القاسم بن [ ص: 287 ] عساكر : إذا كان أبو الحسن مستصوب المذهب عند أهل العلم بالمعرفة والانتقاد يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد فلابد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ونجتنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركا للخيانة ; لتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة فاسمع ما ذكره في ( أول ) كتابه الذي سماه ( الإبانة ) فإنه قال : الحمد لله الأحد الواحد العزيز الماجد المتفرد بالتوحيد المتمجد بالتمجيد الذي لا تبلغه صفات العبيد وليس له مثل ولا نديد وهو المبدئ المعيد جل عن اتخاذ الصاحبة والأبناء وتقدس عن ملامسة النساء ، فليس له عزة تنال ولا حد تضرب فيه الأمثال ، لم يزل بصفاته أولا قديرا ولا يزال عالما خبيرا ، سبق الأشياء علمه ونفذت فيها إرادته فلم تعزب عنه خفيات الأمور ولم يغيره سوالف صروف الدهور ، ولم يلحقه في خلق شيء مما خلق كلال ولا تعب ولا مسه لغوب ولا نصب ، خلق الأشياء بقدرته ودبرها بمشيئته وقهرها بجبروته وذللها بعزته فذل لعظمته المتكبرون واستكان لعظم ربوبيته المتعظمون ، وانقطع دون الرسوخ في علمه الممترون ، وذلت له الرقاب وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب وقامت بكلمته السماوات السبع واستقرت الأرض المهاد وثبتت الجبال الرواسي وجرت الرياح اللواقح وسار في جو السماء السحاب وقامت على حدودها البحار وهو إله قاهر يخضع له المعتزون ويخشع له المترفعون وتطيع طوعا وكرها له العالمون ، نحمده كما حمد نفسه وكما هو أهله ومستحقه ونستعينه استعانة من فوض إليه أمره وأقر أنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه ونستغفره استغفار مقر بذنبه معترف بخطيئته ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا بوحدانيته وإخلاصا لربوبيته وأنه العالم بما تبطنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر وما تخفيه النفوس وما تخزن البحار وما [ ص: 288 ] تواري الأسراب وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ، وساق خطبة طويلة بين فيها مخالفة المعتزلة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع الصحابة إلى أن قال فيها : ودافعوا أن يكون لله وجه مع قوله : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله : ( لما خلقت بيدي ) وأنكروا أن يكون لله عينان مع قوله : ( تجري بأعيننا ) وكقوله : ( ولتصنع على عيني ) ونفوا ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله : إن الله ينزل " كل ليلة " إلى سماء الدنيا . . . إلخ وأنا ذاكر ذلك إن شاء الله تعالى بابا بابا وبه المعونة والتأييد ومنه التوفيق والتسديد . ( فإن قال لنا قائل ) قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به [ ص: 289 ] تقولون ؟ وديانتكم التي بها تدينون ؟ قيل له : قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن خالفه مخالفون ; لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين ، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين . وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا نرد من ذلك شيئا وأن الله سبحانه وتعالى إله واحد . أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله . . وأن الجنة حق والنار حق " وأن " الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، وأن الله تعالى استوى على عرشه كما قال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) وأن له وجها كما قال تعالى : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) وأن له يدين كما قال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) وكما قال تعالى : ( لما خلقت بيدي ) وأن له عينين بلا كيف كما قال تعالى : ( تجري بأعيننا ) وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا ، وأن لله علما كما قال تعالى : ( أنزله بعلمه ) وكما قال تعالى : ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) ونثبت لله قوة كما قال تعالى : ( أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ) ونثبت لله السمع والبصر ، ولا ننفي ذلك كما [ ص: 290 ] نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول : إن ( القرآن ) كلام الله غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له : كن فيكون كما قال تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله وأن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله ولا يستغني عن الله ، ولا نقدر على الخروج من علم الله ، وأنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة ( له ) كما قال تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال تعالى : ( هل من خالق غير الله ) وكما قال تعالى : ( لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ) وكما قال تعالى : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) الآية ، وكما قال تعالى : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض ) وهذا في كتاب الله كثير وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر إليهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان ولو لطف بهم وأصلح لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تعالى : ( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ) وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم [ ص: 291 ] حتى يكونوا مؤمنين ، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم ، وأنه خذلهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ، وأنا نؤمن بقضاء الله وقدره ، خيره وشره ، حلوه ومره ، ونعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا ، وأنا لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ، وإنا نلجئ أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه ونقول : إن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا ، وندين بأن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون كما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونقول إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) وأن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا ( وخر موسى صعقا ) وأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا ، ونرى أن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا أنهم بذلك كافرون ، ونقول : إن من عمل كبيرة من الكبائر " كالزنا والسرقة " وما أشبهها مستحلا لها كان كافرا إذا كان غير معتقد لتحريمها ونقول : إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا ، وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابعه وأنه يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وندين بأن لا ننزل أحدا من [ ص: 292 ] الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا من أهل النار معذبين ، ونقول : إن الله يخرج من النار قوما بعدما امتحشوا بشفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونؤمن بعذاب القبر ونقول : إن الحوض والميزان حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم بالروايات الصحيحة وذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وندين بحب السلف الذي اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ونثني عليهم بما أثنى الله ( به ) عليهم ونتولاهم ( أجمعين ) ونقول : إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر ، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان نضر الله وجهه قتله قاتلوه ظلما وعدوانا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلافتهم خلافة النبوة ، ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها ، ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونكف عما شجر بينهم وندين لله بأن الأئمة الأربعة ( خلفاء ) راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم ، ونصدق جميع الروايات التي رواها أهل النقل من النزول إلى [ ص: 293 ] السماء الدنيا وأن الرب تعالى يقول : هل من سائل ؟ هل من مستغفر ؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتعطيل ، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول : إن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال تعالى : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) وكما قال تعالى : ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وفاجر كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج وأن المسح على الخفين " سنة " في الحضر والسفر خلافا لمن أنكر ذلك و ( نرى ) الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح ، والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم " إذا ظهر منهم ترك الاستقامة ، وندين بترك الخروج عليهم بالسيف " وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما للمدفونين في قبورهم ، ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام " ونقر " أن لذلك تأثيرا ، ونرى الصدقة عن موتى المسلمين المؤمنين والدعاء لهم ونؤمن أن الله ينفعهم [ ص: 294 ] بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة ( وسحرا ) وأن السحر كائن موجود في الدنيا ، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم ، ونوارثهم ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات ( أو قتل ) فبأجله مات أو قتل . وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل يرزقها ( الله ) عباده حلالا وحراما ، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافا لقول المعتزلة والجهمية كما قال الله عز وجل : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) وكما قال تعالى : ( من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ) ونقول : إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله بآيات يظهرها عليهم ، وقولنا في أطفال المشركين أن الله يؤجج لهم نارا في الآخرة ثم يقول لهم : اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك ، وندين بأن الله تعالى يعلم ما العباد عاملون وإلى ماهم صائرون وأن الله يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء ، وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه مما لم نذكره بابا بابا .

قلت : ثم ذكر الأبواب إلى أن قال : باب " ذكر " الاستواء " على العرش " وإن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له : " نقول " : إن الله مستو على عرشه كما قال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) وقال تعالى : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) [ ص: 295 ] وقال تعالى : ( بل رفعه الله إليه ) وقال تعالى حكاية عن فرعون : ( ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ) كذب " فرعون " موسى في قوله : إن الله فوق السماوات وقال الله عز وجل : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) فالسماوات فوقها العرش فلما كان العرش فوق " السماوات قال : أأمنتم من في السماء ; لأنه مستو على العرش الذي فوق " السماوات وكان كل ما علا فهو سماء " فالعرش أعلى السماوات " وليس إذا قال : ( أأمنتم من في السماء ) يعني : جميع السماوات ، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ؛ ألا ترى أنه ذكر السماوات فقال : ( وجعل القمر فيهن نورا ) ولم يرد أنه يملأهن جميعا . . . ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء ; لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله تعالى على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش . ثم قال : ومن دعاء أهل الإسلام إذا هم رغبوا إلى الله تعالى يقولون : يا ساكن العرش ، ومن حلفهم يقولون لا والذي احتجب بسبع ، وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى استوى : استولى وملك وقهر ، وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق : وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما قالوا : كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة ; لأن الله قادر على كل شيء ، والأرض ، فالله قادر عليها وعلى الحشوش فلو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال : إن الله مستو على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقال : إن الله مستو على الحشوش والأخلية فبطل أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء ، ثم بسط الأدلة على هذه المسألة من الكتاب والسنة والعقل ولولا خشية الإطالة لسقناها بألفاظها . وقال الأشعري في كتاب الأمالي " باب القول في الأماكن زعمت النجارية أن الله بكل مكان على معنى الصنع [ ص: 296 ] والتدبير ، واختلف أصحاب الصفات في ذلك ، فقال أبو محمد عبد الله بن كلاب : إن الله لم يزل لا في مكان وهو اليوم لا في مكان ، وقال آخرون منهم : إنه مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه كما قال تعالى : ( وهو القاهر فوق عباده ) وقال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) فامتدح نفسه بأنه على العرش استوى بمعنى أنه علا عليه ، وعلمنا أنه لم يزل عاليا رفيعا قبل خلق الأشياء وقبل خلق العرش الذي هو عال عليه سبحانه وبحمده .

ذكر كلامه في كتابه الكبير في إثبات الصفات وقد ذكر ترجمة هذا الكتاب في كتابه الذي سماه العمدة في الرؤية ، فقال : وألفنا كتابا كبيرا في الصفات تكلمنا على أصناف المعتزلة والجهمية المخالفين لنا في نفيهم علم الله تعالى وقدرته وسائر صفاته ، وعلى أبي الهذيل ومعمر ، والنظام وفي فنون كثيرة من فنون الصفات في إثبات الوجه واليدين وفي إثبات استواء الرب سبحانه على العرش ثم ساق مضمونه ، ذكر كلامه في كتاب جمل المقالات قال : الحمد لله ذي العزة والإفضال والجود والنوال أحمده على ما خص وعم من نعمه ، وأستعينه على أداء فرائضه ، وأسأله الصلاة على خاتم رسله ، أما بعد ؛ فإنه لابد لمن أراد معرفة الديانات والتمييز بينها من معرفة المذاهب والمقالات ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات " ويصنفون " في النحل والديانات من بين مقصر فيما يحكيه وغالط فيما يذكره من [ ص: 297 ] قول مخالفه ، ومن بين متعمد الكذب في الحكاية إذا أراد التشنيع على من يخالفه ، ومن بين تارك التقصي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين ، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به وليس هذا سبيل الربانيين ولا سبيل الفطنة المميزين فحداني ما رأيت من ذلك على شرح ما التمس شرحه من أمر المقالات واختصار ذلك وترك الإطالة والإكثار وأنا مبتدئ بشرح ذلك بعون الله وقوته . وساق حكاية مذاهب الناس إلى أن قال : هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة : جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يردون من ذلك شيئا ( وأن ) الله إله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) وأن الله له يدين بلا كيف كما قال تعالى : ( لما خلقت بيدي ) وقال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) وأن له عينين بلا كيف كما قال تعالى : ( تجري بأعيننا ) وأن له وجها كما قال تعالى : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) إلى أن قال : ( ويقولون ) إن القرآن كلام الله غير مخلوق ، والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم ، لا يقال : اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال : غير مخلوق ، ويقولون : إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون ; لأنهم عن الله محجوبون . وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا [ ص: 298 ] وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا فأعلمه بذلك أنه لا يرى في الدنيا ثم ساق بقية قولهم .

وقال في هذا الكتاب : وقال أهل السنة أصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) ولا نتقدم بين يدي الله في القول بل نقول : استوى بلا كيف ، وأنه نور كما قال تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) وأن له وجها كما قال تعالى : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) وأن له يدين كما قال تعالى : ( لما خلقت بيدي ) وأن له عينين كما قال تعالى : ( تجري بأعيننا ) وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ، ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقالت المعتزلة : إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى هذا نص كلامه .

وقال في هذا الكتاب أيضا : وقالت المعتزلة في قول الله عز وجل : ( الرحمن على العرش استوى ) يعني : استولى ، قال : وتأولت اليد بمعنى النعمة وقوله : ( تجري بأعيننا ) أي [ ص: 299 ] بعلمنا ، قال وأما الوجه فإن المعتزلة قالت فيه قولين : قال بعضهم : - وهو أبو الهذيل - وجه الله هو الله . وقال غيره : معنى قوله : ( ويبقى وجه ربك ) أي : ويبقى ربك من غير أن يكون ثبت وجها ، يقال : إنه هو الله ولا يقال ذلك فيه ، والأشعري إنما حكى تأويل الاستواء بالاستيلاء عن المعتزلة والجهمية وصرح بخلافه وأنه خلاف قول أهل السنة ، وكذلك قال محيي السنة الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره تابعا لأبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية