الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 847 ) مسألة : قال : ( ومن خشي خروج الوقت اعتقد وهو فيها أن لا يعيدها ، وقد أجزأته ) يعني إذا خشي فوات الوقت ، قبل قضاء الفائتة ، وإعادة التي هو فيها ، سقط عنه الترتيب حينئذ ، ويتم صلاته ، ويقضي الفائتة حسب . وقوله " اعتقد أن لا يعيدها " . يعني لا يغير نيته عن الفرضية ولا يعتقد أنه يعيدها ، هذا هو الصحيح في المذهب ، وكذلك لو لم يكن دخل فيها ، لكن لم يبق من وقتها قدر يصليهما جميعا فيه ، فإنه يسقط الترتيب ، ويقدم الحاضرة ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والحسن ، والأوزاعي ، والثوري ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي .

                                                                                                                                            وعن أحمد رواية أخرى ، أن الترتيب واجب مع سعة الوقت وضيقه . اختارها الخلال . وهو مذهب عطاء ، والزهري ، والليث ، ومالك . ولا فرق بين أن تكون الحاضرة جمعة أو غيرها . قال أبو حفص : هذه الرواية تخالف ما نقله الجماعة ، فإما أن يكون غلطا في النقل ، وإما أن يكون قولا قديما لأبي عبد الله . وقال القاضي : وعندي أن المسألة رواية واحدة ، أن الترتيب يسقط ، لأنه قال في رواية مهنا في رجل نسي صلاة وهو في المسجد يوم الجمعة عند حضور الجمعة : يبدأ بالجمعة ، هذه يخاف فوتها . فقيل له : كنت أحفظ عنك أنه إذا صلى وهو ذاكر لصلاة فائتة أنه يعيد هذه وهذه . فقال : كنت أقول هذا .

                                                                                                                                            فظاهر هذا أنه رجع عن قوله الأول وفيه رواية ثالثة ، إن كان وقت الحاضرة يتسع لقضاء الفوائت وجب الترتيب ، وإن كان لا يتسع سقط الترتيب في أول وقتها . نقل ابن منصور في من يقضي صلوات فوائت ، فتحضر صلاة ، أيؤخرها إلى آخر الوقت ، فإذا صلاها يعيدها ؟ فقال : لا ، بل يصليها في الجماعة إذا حضرت ، إذا كان لا يطمع أن يقضي الفوائت كلها إلى آخر وقت هذه الصلاة التي حضرت ، فإن طمع في ذلك قضى الفوائت ، ما لم يخش فوت هذه الصلاة ، ولا قضاء عليه إذا صلى مرة . وهذه الرواية اختيار أبي حفص العكبري . وعلل القاضي هذه الرواية بأن الوقت لا يتسع لقضاء ما في الذمة ، وفعل الحاضرة ، فسقط الترتيب ، وإن كان يمكنه القضاء والشروع في أداء الحاضرة ، كذا هاهنا . ويمكن أن تحمل هذه الرواية على أنه قدم الجماعة على الترتيب مشروطا لضيق الوقت عن قضاء الفوائت جميعها وقد ذكر بعض أصحابنا أن في تقديم الجماعة على الترتيب روايتين ، ولعله أشار إلى هذه الرواية .

                                                                                                                                            فأما من ذهب إلى تقديم الترتيب بكل حال ، فحجته قول النبي صلى الله عليه وسلم { : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها } . وهذا عام في حال ضيق الوقت وسعته ، ولأنه ترتيب مستحق مع سعة الوقت فيستحق مع ضيقه ، كترتيب الركوع والسجود والطهارة . ولنا أن الحاضرة صلاة ضاق وقتها عن أكثر منها ، فلم يجز له تأخيرها ، كما لو لم يكن عليه فائتة . ولأن الحاضرة آكد من الفائتة ، بدليل أنه يقتل بتركها ، ويكفر على رواية ، ولا يحل له تأخيرها عن وقتها ، والفائتة بخلاف ذلك ، وقد [ ص: 355 ] ثبت { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر أخرها شيئا ، وأمرهم فاقتادوا رواحلهم } ، ولأنه ركن من أركان الإسلام مؤقت ، فلم يجز تقديم فائتة على حاضرة يخاف فواتها كالصيام .

                                                                                                                                            وقوله عليه السلام { من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها } مخصوص بما إذا ذكرت فوائت فإنه لا يلزمه في الحال إلا الأولى ، فنقيس عليه ما إذا اجتمعت حاضرة - يخاف فوتها - وفائتة ، لتأكد الحاضرة بما بيناه . فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { : لا صلاة لمن عليه صلاة } . قلنا : هذا الحديث لا أصل له . قال إبراهيم الحربي : قيل لأحمد : حديث النبي صلى الله عليه وسلم { لا صلاة لمن عليه صلاة } فقال : لا أعرف هذا اللفظ . قال إبراهيم : ولا سمعت بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم . فعلى هذه الرواية ، يبدأ فيقضي الفوائت على الترتيب حتى إذا خاف فوت الحاضرة ، صلاها ، ثم عاد إلى قضاء الفوائت . نص أحمد على هذا .

                                                                                                                                            فإن حضرت جماعة في صلاة الحاضرة ، فقال أحمد ، في رواية أبي داود ، في من عليه صلوات فائتة فأدركته الظهر ، ولم يفرغ من الصلوات : يصلي مع الإمام الظهر ويحسبها من الفوائت ، ويصلي الظهر في آخر الوقت ، فإن كان عليه عصر وأقيمت صلاة الظهر ، فقد ذكر بعض أصحابنا . في من عليه فائتة ، وخشي فوات الجماعة ، روايتين ; إحداهما ، يسقط الترتيب لأنه اجتمع واجبان ، الترتيب والجماعة ، ولا بد من تفويت أحدهما ، فكان مخيرا فيهما .

                                                                                                                                            فأما على الرواية التي ذكرناها ، في جواز تقديم الحاضرة على الفوائت إذا كثرت ، في أول وقتها ، فإنه يصلي الحاضرة مع الجماعة متى حضرت ، ولا يحتاج إلى إعادتها . وهذا أحسن وأصح ، إن شاء الله تعالى ، والثانية ، لا يسقط الترتيب ; لأنه آكد من الجماعة بدليل اشتراطه لصحة الصلاة ، بخلاف الجماعة ، وهذا ظاهر المذهب . فإن أراد أن يصلي العصر الفائتة خلف من يؤدي الظهر ابتنى ذلك على جواز ائتمام من يصلي العصر خلف من يصلي الظهر . وفيه روايتان ، سنذكرهما إن شاء الله تعالى . قال أحمد ، في من ترك صلاة سنين : يعيدها ، فإذا جاء وقت صلاة مكتوبة صلاها ، ويجعلها من الفوائت التي يعيدها ، ويصلي الظهر في آخر الوقت . وقال : لا يصلي مكتوبة إلا في آخر وقتها حتى يقضي التي عليه من الصلوات .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية