الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله :( أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) فقال أهل العلم : إنه لا يجوز أن يظن موسى - عليه السلام - أن الله تعالى يهلك قوما بذنوب غيرهم ، فيجب تأويل الآية ، وفيه بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه استفهام بمعنى الجحد ، وأراد أنك لا تفعل ذلك . كما تقول : أتهين من يخدمك ؟ أي لا تفعل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال المبرد : هو استفهام استعطاف ، أي لا تهلكنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله :( إن هي إلا فتنتك ) فقال الواحدي رحمه الله : الكناية في قوله :( هي ) عائدة إلى الفتنة كما تقول : إن هو إلا زيد ، وإن هي إلا هند . والمعنى : أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أضللت بها قوما فافتتنوا ، وعصمت قوما عنها فثبتوا على الحق ، ثم أكد بيان أن الكل من الله تعالى ، فقال :( تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) قال الواحدي : وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر . قالت المعتزلة : لا تعلق للجبرية بهذه الآية لأنه تعالى لم يقل ؛ تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين ، ولأنه تعالى قال :( تضل بها ) أي بالرجفة ، ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها ، فوجب حمل هذه الآية على التأويل . فأما قوله :( إن هي إلا فتنتك ) فالمعنى : امتحانك وشدة تعبدك ؛ لأنه لما أظهر الرجفة كلفهم بالصبر عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله :( تضل بها من تشاء ) ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : تهدي بهذا الامتحان إلى الجنة والثواب بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ويبقى على الإيمان ، وتعاقب من تشاء بشرط أن لا يؤمن ، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يكون المراد بالإضلال الإهلاك ، والتقدير : تهلك من تشاء بهذه الرجفة وتصرفها عمن تشاء .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أنه لما كان هذا الامتحان كالسبب في هداية من اهتدى ، وضلال من ضل ، جاز أن يضافا إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه التأويلات متسعة ، والدلائل العقلية دالة على أنه يجب أن يكون المراد ما ذكرناه ، وتقريرها من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن القدرة الصالحة للإيمان والكفر لا يترجح تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطرف الآخر ، إلا لأجل داعية مرجحة ، وخالق تلك الداعية هو الله تعالى ، وعند حصول تلك الداعية يجب الفعل وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت أن الهداية من الله تعالى ، وأن الإضلال من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن أحدا من العقلاء لا يريد إلا الإيمان والحق والصدق ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كل واحد مؤمنا محقا ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ثبت أن الكل من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه لو كان حصول الهداية والمعرفة بفعل العبد فما لم يتميز عنده الاعتقاد الحق عن الاعتقاد الباطل ، امتنع أن يخص أحد [ ص: 18 ] الاعتقادين بالتحصيل والتكوين ، لكن علمه بأن هذا الاعتقاد هو الحق وأن الآخر هو الباطل ، يقتضي كونه عالما بذلك المعتقد أولا كما هو عليه ، فيلزم أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد مشروطة بكون ذلك الاعتقاد الحق حاصلا ، وذلك يقتضي كون الشيء مشروطا بنفسه وأنه محال ، فثبت أنه يمتنع أن يكون حصول الهداية والعلم بتخليق العبد ، وأما الكلام في إبطال تلك التأويلات فقد سبق ذكره في هذا الكتاب غير مرة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم حكى تعالى عن موسى - عليه السلام - أنه قال بعد ذلك :( أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين )

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله :( أنت ولينا ) يفيد الحصر ، ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت ، وهذا من تمام ما سبق ذكره من قوله :( تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) . وقوله :( فاغفر لنا وارحمنا ) المراد منه أن إقدامه على قوله :( إن هي إلا فتنتك ) جراءة عظيمة ، فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها ، وقوله :( وأنت خير الغافرين ) معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثناء الجميل أو للثواب الجزيل ، أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب ، وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر ، أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض ، بل لمحض الفضل والكرم ، فوجب القطع بكونه( خير الغافرين ) والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية