الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 59 ] أما قوله تعالى :( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ حمزة " يلحدون " ووافقه عاصم والكسائي في النحل . قال الفراء : " يلحدون " ، " ويلحدون " لغتان : يقال : لحدت لحدا وألحدت ، قال أهل اللغة : معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد . قال ابن السكيت : الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه . يقال : قد ألحد في الدين ولحد ، وقال أبو عمرو من أهل اللغة : الإلحاد : العدل عن الاستقامة والانحراف عنها . ومنه اللحد الذي يحفر في جانب القبر . قال الواحدي رحمه الله : والأجود قراءة العامة لقوله تعالى :( ومن يرد فيه بإلحاد ) والإلحاد أكثر في كلامهم لقولهم : ملحد ، ولا تكاد تسمع العرب يقولون لاحد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال المحققون : الإلحاد في أسماء الله يقع على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله ، مثل أن الكفار كانوا يسمون الأوثان بآلهة ، ومن ذلك أنهم سموا أصناما باللات والعزى والمناة ، واشتقاق اللات من الإله ، والعزى من العزيز ، واشتقاق مناة من المنان . وكان مسيلمة الكذاب لقب نفسه بالرحمن .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يسموا الله بما لا يجوز تسميته به ، مثل تسمية من سماه أبا للمسيح . وقول جمهور النصارى : أب ، وابن ، وروح القدس ، ومثل أن الكرامية يطلقون لفظ الجسم على الله سبحانه ويسمونه به ، ومثل أن المعتزلة قد يقولون في أثناء كلامهم : لو فعل تعالى كذا وكذا لكان سفيها مستحقا للذم ، وهذه الألفاظ مشعرة بسوء الأدب . قال أصحابنا : وليس كل ما صح معناه جاز إطلاقه باللفظ في حق الله ، فإنه ثبت بالدليل أنه سبحانه هو الخالق لجميع الأجسام ، ثم لا يجوز أن يقال : يا خالق الديدان والقرود والقردان ، بل الواجب تنزيه الله عن مثل هذه الأذكار ، وأن يقال : يا خالق الأرض والسماوات يا مقيل العثرات يا راحم العبرات إلى غيرها من الأذكار الجميلة الشريفة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه ولا يتصور مسماه ، فإنه ربما كان مسماه أمرا غير لائق بجلال الله ، فهذه الأقسام الثلاثة هي الإلحاد في الأسماء .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قال قائل : هل يلزم من ورود الأول في إطلاق لفظه على الله تعالى أن يطلق عليه سائر الألفاظ المشتقة منه على الإطلاق ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الحق عندي أن ذلك غير لازم في حق الله تعالى ، ولا في حق الملائكة والأنبياء وتقريره : أن لفظ " علم " ورد في حق الله تعالى في آيات منها قوله :( وعلم آدم الأسماء كلها ) [ البقرة : 31 ] ،( وعلمك ما لم تكن تعلم ) [ النساء : 113 ] ،( وعلمناه من لدنا علما ) [ الكهف : 65 ] ،( الرحمن علم القرآن ) [ الرحمن : 1 ، 2 ] ، ثم لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى يا معلم ، وأيضا ورد قوله :( يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54 ] ثم لا يجوز عندي أن يقال يا محب . وأما في حق الأنبياء ، فقد ورد في حق آدم - عليه السلام - :( وعصى آدم ربه فغوى ) [ طه : 121 ] ، ثم لا يجوز أن يقال إن آدم كان عاصيا غاويا ، وورد في حق موسى - عليه السلام -( ياأبت استأجره ) [ القصص : 26 ] ثم لا يجوز أن يقال إنه - عليه السلام - كان أجيرا ، والضابط أن هذه الألفاظ الموهمة يجب الاقتصار فيها على الوارد ، فأما التوسع بإطلاق الألفاظ المشتقة منها فهي عندي ممنوعة غير جائزة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى :( سيجزون ما كانوا يعملون ) فهو تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله . قالت المعتزلة : الآية قد دلت على إثبات العمل للعبد ، وعلى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية