الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى :( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون )

                                                                                                                                                                                                                                            وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حكم في الآية المتقدمة على اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ، شرح ذلك في هذه الآية ، وذلك بأن نقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا ، ومن جوز ذلك في حق الإله فهو في الحقيقة قد أنكر الإله ، وأيضا بين تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك ، وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة ، إذ لا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره ؛ لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبودا ، فإذا حصل هذا المعنى فقد حصل الشرك ، بل إنا لو تأملنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخف من كفر النصارى ؛ لأن عابد الوثن لا يقول إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم ، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسل به إلى طاعة الله ، أما النصارى فإنهم يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جدا ، فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين ، وأنهم إنما خصهم بقبول الجزية منهم ؛ لأنهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى ، وادعوا أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل ، فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين ، وتعظيم كتابيهما وتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى بسبب أنهم كانوا على الدين الحق ، حكم الله تعالى بقبول الجزية منهم ، وإلا ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في قوله :( وقالت اليهود عزير ابن الله ) أقوال : الأول : قال عبيد بن عمير : إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة : أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم : سلام بن مشكم ، والنعمان بن أوفى ، ومالك بن [ ص: 28 ] الصيف ، وقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، ولا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فنزلت هذه الآية ، وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود ، إلا أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد ، يقال : فلان يركب الخيول ، ولعله لم يركب إلا واحدا منها ، وفلان يجالس السلاطين ، ولعله لا يجالس إلا واحدا .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : لعل هذا المذهب كان فاشيا فيهم ثم انقطع ، فحكى الله ذلك عنهم ، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك ، فإن حكاية الله عنهم أصدق ، والسبب الذي لأجله قالوا هذا القول ما رواه ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة ، وعملوا بغير الحق ، فأنساهم الله تعالى التوراة ، ونسخها من صدورهم فتضرع عزير إلى الله وابتهل إليه ، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، فأنذر قومه به ، فلما جربوه وجدوه صادقا فيه ، فقالوا : ما تيسر هذا لعزير إلا أنه ابن الله ، وقال الكلبي : قتل بختنصر علماءهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال السدي : العمالقة قتلوهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة ، فهذا ما قيل في هذا الباب . وأما حكاية الله عن النصارى أنهم يقولون : المسيح ابن الله ، فهي ظاهرة ، لكن فيها إشكال قوي ، وهي أنا نقطع أن المسيح صلوات الله عليه وأصحابه كانوا مبرئين من دعوة الناس إلا الأبوة والبنوة ، فإن هذا أفحش أنواع الكفر ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء عليهم السلام ؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقل إطباق جملة محبي عيسى من النصارى على هذا الكفر ؟ ، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسد ؟ وكيف قدر على نسبته إلى المسيح عليه السلام ؟ فقال المفسرون في الجواب عن هذا السؤال : إن أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام كانوا على الحق بعد رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : بولس قتل جمعا من أصحاب عيسى ، ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ، وإني أحتال فأضلهم ، فعرقب فرسه ، وأظهر الندامة مما كان يصنع ، ووضع على رأسه التراب ، وقال : نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر ، وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة ، ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس ، واستخلف عليهم رجلا اسمه نسطور ، وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت ، وقال : ما كان عيسى إنسانا ، ولا جسما ولكنه الله ، وعلم رجلا آخر يقال له يعقوب ذلك ، ثم دعا رجلا يقال له ملكا ، فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ، ثم دعا لهؤلاء الثلاثة ، وقال لكل واحد منهم : أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك ، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني ، وإني أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه ، ثم دعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله ومذهبه ، فهذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى ، هذا ما حكاه الواحدي رحمه الله تعالى ، والأقرب عندي أن يقال : لعله ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف ، كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف ، ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ، ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الثاني ، فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية . والجهال قبلوا ذلك ، وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام ، والله أعلم بحقيقة الحال .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قرأ عاصم والكسائي وعبد الوارث عن أبي عمرو "عزير " بالتنوين والباقون بغير [ ص: 29 ] التنوين ، قال الزجاج : الوجه إثبات التنوين ، فقوله :( عزير ) مبتدأ وقوله :( ابن الله ) خبره ، وإذا كان كذلك فلا بد من التنوين في حال السعة ؛ لأن عزيرا ينصرف سواء كان أعجميا أو عربيا ، وسبب كونه منصرفا أمران :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه اسم خفيف فينصرف ، وإن كان أعجميا كهود ولوط .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه على صيغة التصغير وأن الأسماء الأعجمية لا تصغر ، وأما الذين تركوا التنوين فلهم فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أنه أعجمي ومعرفة ، فوجب أن لا ينصرف .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن قوله :( ابن ) صفة والخبر محذوف ، والتقدير : عزير ابن الله معبودنا ، وطعن عبد القاهر الجرجاني في هذا الوجه في كتاب "دلائل الإعجاز" ، وقال : الاسم إذا وصف بصفة ، ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر ، وصار ذلك الوصف مسلما ، فلما كان المقصود بالإنكار هو قولهم عزير ابن الله معبودنا ، لتوجه الإنكار إلى كونه معبودا لهم ، وحصل كونه ابنا لله ، ومعلوم أن ذلك كفر ، وهذا الطعن عندي ضعيف . أما قوله : إن من أخبر عن ذات موصوفة بصفة بأمر من الأمور وأنكره منكر ، توجه الإنكار إلى الخبر فهذا مسلم ، وأما قوله : ويكون ذلك تسليما لذلك الوصف فهذا ممنوع ؛ لأنه لا يلزم من كونه مكذبا لذلك الخبر بالتكذيب أن يدل على أن ما سواه لا يكذبه بل يصدقه ، وهذا بناء على دليل الخطاب ، وهو ضعيف لا سيما في مثل هذا المقام .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : قال الفراء : نون التنوين ساكنة من " عزير " ، والباء في قوله :( ابن الله ) ساكنة فحصل ههنا التقاء الساكنين ، فحذف نون التنوين للتخفيف ، وأنشد الفراء :


                                                                                                                                                                                                                                            فألقيته غير مستعتب ولا ذاكر الله إلا قليلا



                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه لما حكى عنهم بهذه الحكاية قال :( ذلك قولهم بأفواههم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ولقائل أن يقول : إن كل قول إنما يقال بالفم ، فما معنى تخصيصهم لهذا القول بهذه الصفة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يراد به قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى معتبر لحقه ، والحاصل أنهم قالوا باللسان قولا ، ولكن لم يحصل عند العقل من ذلك القول أثر ؛ لأن إثبات الولد للإله مع أنه منزه عن الحاجة والشهوة والمضاجعة والمباضعة قول باطل ، ليس عند العقل منه أثر . ونظيره قوله تعالى :( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الإنسان قد يختار مذهبا إما على سبيل الكناية ، وإما على سبيل الرمز والتعريض ، فإذا صرح به وذكره بلسانه ، فذلك هو الغاية في اختياره لذلك المذهب ، والنهاية في كونه ذاهبا إليه قائلا به ، والمراد ههنا أنهم يصرحون بهذا المذهب ولا يخفونه البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن المراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة ، والمراد منه مبالغتهم في دعوة الخلق إلى المذهب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية