الفكر والإيمان

0 521

وجوه الالتقاء بين الثقافات التحاورية أكثر منها بكثير من وجوه الاختلاف، لا سيما بين الثقافات الرائدة. ويحسن هنا ذكر بعض من وجوه الالتقاء، التي يظهر من أبرزها الآتي:

أولا: جميع الثقافات الرائدة تؤمن بوجود إله مدبر قادر قوي، له صفات تختلف عن صفات البشر، فهو أرقى من البشر في قدراته. وبغض النظر عن طبيعة هذا الإله، فإننا إذا دخلنا في التفاصيل دخلنا في وجوه الاختلاف. والاتفاق على وجود المبدأ نفسه كفيل بالدخول في التفاصيل عند الحوار الندي الموضوعي.

ثانيا: جميع الثقافات الرائدة تؤمن بالرسالات، وأن الذي قام بتبليغها عن الإله المتفق عليه هم بشر من جلدتنا، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ونترك هنا تفاصيل هذه البشرية، إذا ما اتفقنا على أن هؤلاء الرسل بشر منا.

ثالثا: جميع الثقافات الرائدة تؤمن بالملائكة، وأنهم خلق من خلق الله تعالى، وأنهم يختلفون عن البشر في الصفاء والنقاء والطهارة، أرأيتم أن بعض هذه الثقافات تشبه بعض أولادها بالملائكة، حينما تظهر عليهم صفات النقاء والصفاء والطهارة؟! ثم إن هذه الثقافات الرائدة تؤمن كذلك بأن لهؤلاء الملائكة مهمات. ونترك التفاصيل هنا كذلك في مهمات الملائكة. كما أننا لا نلقي بالا لمن ينكر المبدأ الموجود في ثقافته الرائدة.

رابعا: جميع الثقافات الرائدة تؤمن بأن هناك كتبا مقدسة منزلة على هؤلاء الرسل، المتفق عليهم من حيث المبدأ، وأن هذه الكتب إنما جاءت لتوضح الرسالة المرادة من الناس، وتبين لهم كيف يعمرون الأرض، وبالتالي يحققون السعادة والطمأنينة والأمان. ولا مجال للدخول في تفصيلات الكتب السماوية وتغطياتها، وما اعترى بعضا منها من تدخل البشر في نصوصها، فإن التفاصيل هي مجالات الاختلاف.

خامسا: جميع الثقافات الرائدة تؤمن بالدار الآخرة وأن الدار الآخرة هي دار القرار، وأنها جنة أو نار، وبالتالي فإن هذه الثقافات بالإضافة إلى إيمانها بأن الدار الدنيا ليست كل شيء؛ فإنها تؤمن كذلك أن الحياة الدنيا بما فيها من صراع وكد ونكد وكبد ليست كل شيء، وأن هناك حياة أبدية فيها طمأنينة أكثر، وأمان أكثر، وسعادة أكثر لمن دخل الجنة، وفيها عذاب مقيم لمن دخل النار ولم يخرج منها، بغض النظر عن طبيعة هذه الجنة، وتلك النار وبغض النظر عن نوع العذاب، فهذه من التفصيلات التي تزيد من أوجه الاختلاف.

سادسا: جميع الثقافات الرائدة تؤمن بالقدر، وهو مصطلح موجود في لغات هذه الثقافات، ويتردد على ألسنة ذويها. فالمبدأ موجود والاختلاف إنما هو على الكيفية والمدى.

وهذه الوجوه الستة التي تلتقي فيها الثقافات الرائدة هي التي تعارفنا عليها، في ثقافتنا الرائدة، على أنها أركان الإيمان الستة، وهي كما ذكر أوجه الالتقاء بين هذه الثقافات. أما الثقافات الوضعية فهي تؤمن بجوانب كبيرة منها، ولكنها ليست لديها بهذا الوضوح الموجود بين الثقافات الرائدة.

ولابد من التوكيد قبل ختام هذه الوقفة على أن أوجه الالتقاء هذه إنما هي مما تمليه الفطرة على الإنسان، أيا كانت مقوماته الثقافية، والذي يلتقي مع الفطرة يجد نفسه سعيدا عند الوقوف على هذه المقومات الستة لأي ثقافة رائدة، وما جاءت هذه الثقافات في منشئها إلا متماشية مع الفطرة، موجهة لها الوجهة الصحيحة التي قد تتدخل التفصيلات فيها للانحراف بها عن مسارها الصحيح.

وليست هذه المقومات الستة هي وحدها وجوه الالتقاء ولكنها كافية، وحدها أن تكون مدارا للحوار بين الثقافات التي تسعى إلى الالتقاء أكثر من سعيها للاختلاف، سوى وجود عناصر تريد أن تتنكر لهذه الوجوه أو بعضها، فتصطنع وجوه الاختلاف في المبادئ لا في التفصيلات.

ويغفل هنا جانب الخوض في بيان ما جرى على هذه المقومات الستة في الثقافات الرائدة الأخرى غير الإسلام؛ لأن هذه الوقفات تنطلق من الطرح الإسلامي في الحديث عما جرى لها، فلا يفهم من تركها التسليم بها على علاتها، وإنما فطنة القارئ كفيلة بهذا الاحتراز الذي ألمح إليه هنا، خوفا من أن يفهم خلافه.

ـــــــ

المصدر:الفكر بين العلم والسلطة/علي النملة

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة