القرآن واللغة العربية

1 2362

القرآن رسالة السماء إلى الأرض، فمن أراد أن يفهمه على هذا النهج فقد وقف بنفسه على مواطن العظمة، ومواضع الإعجاز فيه. ومن أراد أن يعرف أثره في اللغة العربية فلينظر ذلك الأثر في حياة المسلمين عقيدة وسلوكا، ليرى ذلك واضحا وجليا. 

ولكن قد تقصر الأفهام عن المراد من آية من آياته، فيظن أنها جاءت على غير ما تعارف عليه أهل اللغة.

وقد يعجز البصر عن الوصول إلى إعجاز نحوي جاء في أثناء آية، فيذهب الظن إلى أن القرآن قد تجاوز قواعد اللغة وما تعارف عليه أهلها، وهذا -لاشك- قصور وعجز في الإنسان عن إدراك لغة القرآن وأساليبه البيانية، فهو كتاب رب العالمين، ومحال أن يناله تجاوز أو خطأ أو مجافاة للذوق اللغوي، فضلا عن أنه أساس اللغة العربية، ومنه تستنبط القواعد اللغوية. 

وفي هذه العجالة سوف نأتي على بعض الأمثلة، التي قد يظن أن فيها خطأ نحويـا، أو أنها تجافي لسان العرب ومعهودهم، ونبين توجيه العلماء لها.

المثال الأول: قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران:59) والإشكال الذي قد يرد هنا، قوله تعالى: {فيكون} حيث جاء الفعل مضارعا، مع أن الحدث قد حصل وانتهى. وأجيب عن هذا بأن الفعل جاء حكاية لحال ماضية، فيجوز فيه الوجهان، فلا إشكال إذن.

المثال الثاني: قوله تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} (الأعراف:56) والسؤال: لماذا جاءت الصفة وهي قوله تعالى: {قريب} مخالفة للموصوف، وهو قوله: {رحمت} مع أن الأصل موافقة الصفة للموصوف، تذكيرا وتأنيثا؟ وأجيب عن هذا بأجوبة نختار منها اثنين:

- أن {قريب} صفة لموصوف محذوف، تقديره: شيء قريب.

- أن {قريب} على وزن فعيل، وما كان كذلك فيصح أن يوصف به المذكر والمؤنث.

ومثل هذه الآية أيضا، قوله تعالى: {لعل الساعة قريب} (الشورى:17) والتقدير في الآية: لعل مجيء الساعة قريب؛ وهذا جائز بلا خلاف يذكر.

المثال الثالث: قوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة:62).

والسؤال، لماذا جاء الضمير في قوله تعالى: {يرضوه} بصيغة المفرد؟ وأجيب عن ذلك بأنه لا فرق ولا تفاوت بين رضا الله تعالى، ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا في حكم مرضي واحد، كقولك: إحسان زيد وإكرامه نعشني وجبر مني. ولك أن تقول: هو من باب التقديم والتأخير، وعلى هذا يكون المعنى: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك. وهذا من البلاغة أيضـا، فتنبه إليه.

المثال الرابع: قوله تعالى: {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} (يوسف:15) فإن قلت: أين جواب "لما" ؟ قلنا: جوابها محذوف؛ لاستطالة الكلام مع أمن الالتباس، ولأن في الآية ما يدل عليه، وهو قوله تعالى: {وأوحينا إليه} والحذف أولى من الإثبات، للوجازة والبلاغة.

المثال الخامس: قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} (الحج:19) قد يشكل في الآية مجيء الفعل {اختصموا} بصيغة الجمع، مع أن الفاعل {خصمان} قد جاء بصيغة المثنى. وأجابوا عن ذلك، بأن قوله تعالى: {هذان خصمان} هو لفظ، فكل خصم فريق، وكل فريق مؤلف من عدد من الخصماء، وقوله: {اختصموا} هو للمعنى -وهو مجموع الخصماء- لا للفظ -وهو الخصمان- فناسب أن يقول: {اختصموا} لأن كل فريق من الذين كفروا والذين آمنوا كبير. وليس في شيء من هذا ما تأباه اللغة، وذلك ظاهر لمن خبر العربية وتذوقها.

المثال السادس: قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} (التحريم:4) الخطاب في الآية لأم المؤمنين عائشة وحفصة، رضي الله عنهما، واستعمال الجمع في قوله: {قلوبكما} مكان المثنى أو المفرد أو العكس أمر وارد وصحيح في اللغة، على سبيل النيابة، أي يذكر الجمع ويراد به المثنى أو المفرد. ووجه بعض العلماء الآية بأن أقل الجمع اثنان، وعلى هذا التوجيه فلا إشكال حينئذ.

وهكذا يتضح بكل جلاء أنه لا تعارض بين ما جاء في القرآن الكريم وبين بعض القواعد التي أصلها أهل اللغة والنحو، وإن كان شيء من هذا القبيل، فمرده إما إلى الاختلاف في نفس القاعدة، وإما إلى الجهل بأساليب اللغة العربية، التي هي في الأساس مستخلصة من لغة القرآن، ولاشك أن كتاب الله هو الحجة البالغة، والمرجع الأساس في جواز شيء من الكلام، أو عدم جوازه، لذا كان أحق أن يتبع، والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة