علو الهمة في حب الله

5 1897

إن المحبة هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها نظر العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيهما تروح العابدون؛ فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام. إنها المحبة التي ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب.

وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة، أن المرء مع من أحب، فيالها من نعمة على المحبين سابغة!!.

شجرة المحبة وارفة الظلال

إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب، أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى.

  لا يزال سعي المحب صاعدا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر:10].

قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} [التوبة:24].

وقال تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة:165].

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} [المائدة:54].

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".

  وفي الصحيحين أيضا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله! والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال: والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال صلى الله عليه وسلم:" الآن يا عمر".

ومعلوم أن محبة الرسول تابعة لمحبة الله عز وجل، فما الظن بمحبة الله عز وجل؟!

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة:10].

قال ابن عباس في هذه الآية: كانت المرأة إذا أتت النبي صلى الله عليه وسلم لتسلم؛ حلفها بالله ما خرجت من بغض زوج إلا حبا لله ورسوله.

  وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله، كما يكره أن يقذف في النار".

وعن معاذ - في حديث اختصام الملأ الأعلى – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة - يعني في المنام – فذكر الحديث. وقال في آخره: "قال: سل. قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها حق فادرسوها، ثم تعلموها" [رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح].

ومن الأسباب الجالبة للمحبة المقوية لها:

(1) قراءة القرآن بالتدبر: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف".

(2) التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض: كما في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه".

(3) دوام ذكره سبحانه على كل حال: بالقلب واللسان، قال. قال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: من علامة المحبة لله: دوام الذكر بالقلب واللسان، وقلما ولع المرء بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حب الله عز وجل.

(4) إيثار محابه سبحانه على محاب النفس وهواها.

(5) مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـ {قل هو الله أحد}؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك". فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه".

(6)  مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة: قال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل:53].

(7)  الخلوة به سبحانه وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه ودعائه واستغفاره.

(8)  مجالسة المحبين الصالحين الصادقين.

(9) مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.

عيش المحبين هو العيش على الحقيقة

نعم فلا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعنيهم بحبيبهم، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه، وتنعموا بحبه، ففي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه والإنابة إليه، ولا يلم شعثه بغير ذلك أبدا. ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات، فإنه إن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات؛ فإن همته لا ترضى فيها بالدون، وإن كان مهينا خسيسا فعيشه كعيش أخس الحيوانات. فلا تقر العيون إلا بمحبة الحبيب الأول.

ومن المحبين الصادقين

أبو بكر الصديق الذي سبق الأمة بحبه لله:

            عن بكر المزني قال: ما فاق أبو بكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه.

            قال إبراهيم: بلغني عن ابن علية أنه قال في عقيب هذا الحديث: الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل والنصيحة لخلقه.

ابن عمر يسأل الله حبه:

            كان ابن عمر يدعو على الصفا والمروة وفي مناسكه: "اللهم اجعلني ممن يحبك،ويحب ملائكتك، ويحب رسلك،ويحب عبادك الصالحين.اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين".

حكيم بن حزام شعاره الحب:

كان رضي الله عنه يطوف بالبيت ويقول: لا إله إلا الله ، نعم الرب ونعم الإله ، أحبه وأخشاه.

من علامات صدق المحبة:

            إن المحبة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارها تظهر في القلب واللسان والجوارح. وقد وصف الله تعالى المحبين بالعديد من الأوصاف، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} [المائدة:54].

وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} [آل عمران:31]. فوصفهم سبحانه بخمسة أوصاف:

(1) الذلة على المؤمنين ولين الجانب والتواضع والرحمة والرأفة للمؤمنين.

(2) العزة على الكافرين والبراءة منهم.

(3) الجهاد في سبيل الله ببذل النفس والمال لنصرة دين الله ورد الناس إليه.

(4) الاجتهاد في رضى الله وعدم المبالاة بلوم الناس:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي            متأخر عنـه ولا متقــدم

أجد الملامـة فـي هـواك لذيـذة           حبا لذكرك فليمني اللـوم

(5) متابعة الرسول وطاعته.

ومن علاماتها: حب لقاء الله في دار السلام والنظر إلى وجهه.

قال ابن رجب: "همم العارفين المحبين متعلقة من الآخرة برؤية الله، والنظر إلى وجهه في دار كرامته والقرب منه".

نسأل الله الكريم أن يرزقنا محبته، وأن ينعم علينا بالنظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم.وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة