وجزيت خيرًا ... دعوة لأم أحسنت التربية

0 880
  • اسم الكاتب:ماجدة محمد شحاته

  • التصنيف:أب .. وأم

في ليلة من ليالي الصيف المقمرة .. عاد الفارس المجاهد بعد ثلاثين سنة من الجهاد .. وقد ترك زوجه العروس تحمل بين أحشائها جنينا . تلفت الفارس يمنة ويسرة محاولا استعادة ذلك البيت الذي يضم زوجه ووليده ، الذين لا يعرف عنهما شيئا .
لقد تغيرت معالم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي قبل ، وكثر فيها سواد الناس ، لا أحد يحفل به وهو في طريقه إلى داره ، بل لا أحد يهتم لعودته بعد طول غيبته ، ولكن هل يذكره أحد ؟!
هل يتذكر أحد ذلك الفارس المجاهد الذي ما إن سمع نداء الجهاد حتى أسرع ملبيا ، تاركا زوجه الحامل ، والتي لا تزال عروسا لم ينقض على عرسها غير أشهر معدودات .

ثلث قرن والفارس ينتقل مع جيوش المسلمين من فتح إلى فتح ، ومن نصر إلى نصر ، لا يكاد يهزه حنين إلى زوجه وولده ذكرا كان أم أنثى .
لقد كان انتظار الزوجة له حتى انقطع في عودته الرجاء ، والناس مختلفون في مصيره ، ومع طول المدة و انقطاع الأخبار ، ترجح في نفس الزوجة والجميع استشهاد الفارس المجاهد ، مضى الفارس إلى حيث تعرف على موضع داره ، ألجمته الدهشة فلم يطرق بابها ، ومن ذا يرده عن داره ؟! دخل الفارس الدار ، فإذا برجل في الثلاثين من عمره ينقض عليه انقضاض الأسد على فريسته ، إذ كيف لهذا الشيخ بسيفه ورمحه أن يلج الدار معتديا على من فيها من محارم ، احتدم الأمر بين الرجلين ، يدفع الشاب الشيخ ذائدا عن حرماته المستحلة ، والشيخ يقسم أن الدار داره ، يرتفع صوت الرجلين فيفزع الجيران محيطين بالشيخ إحاطة السوار بالمعصم ، مدافعين عن جارهم الشاب ، والشيخ يحاول أن يذكرهم بنفسه ولا أحد يعرفه ، أو يصدقه ، يصل الضجيج إلى حيث الأم النائمة ، تستيقظ على جلبة بين الرجال ، تنظر من أعلى البيت ، يا لهول ما رأت .

 لم تكد تصدق عينيها ، أعادت النظر مرة ثانية لعلها تستوثق مما رأت ، إنه فروخ زوجها الفارس المجاهد بشحمه ولحمه منذ وقعت عيناها عليه ، آخر مرة منذ ثلاثين عاما ، لقد تذكرت على الفور يوم ودعها موصيا إياها خيرا ، مذكرا إياها أنه قد خلف لها ثلاثين ألف دينار هي غنائمه من جهاده قبل أن ينال حريته من قائده الصحابي الجليل الربيع ابن زياد الحارثي ، لا زالت تذكر كلماته : " صونيها - أي الثلاثين ألف دينار- وثمريها ، وأنفقي منها على نفسك ووليدك بالمعروف حتى أعود إليك سالما غانما ، أو يرزقني الله الشهادة التي أتمناها " ، نزلت الأم ولا يزال رنين كلمات زوجها كما لو كان لتوه ، أمرت الجميع أن يتفرقوا شاكرة لهم حسن صنيعهم ، فإنما الرجل فروخ زوجها ووالد جارهم الشاب .

لم يتمالك الرجلان نفسيهما فأكب كل منهما على الآخر معانقا إياه ، والابن يجثو على يد أبيه يلثمها معتذرا فرحا - لقد اختلطت المشاعر عند كليهما ، وتقاطرت الدموع منهما ، فرحا بلقاء لم يكن في حسبان أحدهما أو كليهما ، جلست الزوجة إلى زوجها يحدثها عن مسيرة ثلث قرن من الجهاد مع جيوش المسلمين ، مبينا لها سبب غيبته وانقطاعه ، ظل الفارس يتحدث ولكن الزوجة كانت في هواجس أخرى ، تحاول أن تجد إجابة مرضية لزوجها إذا سألها عن ذلك المبلغ الذي تركه على أن تثمره وتنفق منه بمعروف ، إنها تحاول أن تعثر على إجابة لا تغضبه ، ولكن كيف ؟ ها هو يسألها وهي تتشاغل عنه ، هل تخبره أنه لم يعد من الثلاثين ألف دينار شيء ، أيقنعه أنها جميعا أنفقت على تعليم ولده وتأديبه ؟ وأي علم ذلك الذي يستغرق كل هذا المال ؟! ، أيصدق أن ولده سخي النفس كريم الطبع ، لا يكاد ينقطع عن النفقة في كل وجوه الخير والبر ؟ 

وبينما هي في خواطرها المتسارعة ، والتي قطعت عليها فرحتها بشمل جمعه الله بعدما ظنت كل الظن ألا يتلاقيا ، وبينما هي كذلك إذ قطع عليها تفكيرها بقوله : " لقد جئتك - يا أم ربيعت - بأربعة آلاف دينار ، فأخرجي المال الذي أودعتك إياه ، نشتري به عقارا أو بستانا نعيش من غلته ما بقيت بنا الحياة ، حاولت الزوجة أن تتشاغل عنه ، فلم تجبه ولكنه ألح في الطلب - إنها تخشى غضبته ، فيما لو عرف الحقيقة ، فماذا تفعل ؟ ردت في حكمة وثبات : لقد وضعته حيث يجب أن يوضع ، وسأخرجه لك إن شاء الله ، هنا انطلق صوت المؤذن لصلاة الفجر ، فقطع حديثهما ، وهم بالخروج إلى المسجد متسائلا عن ربيعة ، ولكن ربيعة كان قد سبقه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخالجه شوق إلى روضة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ويدفعه حنين ثلاثين سنة عاشها مجاهدا ، بعيدا عن مدينته صلى الله عليه وسلم ، وها هو يؤدي الصلاة ثم يجلس في الروضة الشريفة ، يملأ نفسه وعينه بذكر وصلاة ودعاء طالما اشتاق إليه في هذا المكان ، وها هو يخرج من المسجد ، ولكن ساحة المسجد تغص بالناس ، فلم يعد فيها موطأ لقدم .

الكل يتحلق حلقة في إثر حلقة حول شيخ مهيب ، لم يتبين ملامحه لبعده عنه ، ولكن بيان الشيخ يأخذ باللبيب ، إذ ينثال على الشفاه علم متدفق يدل على حافظة واعية ، لا تكاد تغيب عنها شاردة ، لقد أدهش الرجل خضوع الناس بين يدي الشيخ ، وتزاحمهم عليه وإحاطتهم به ، واندفاعهم خلفه بعدما ما أنهى حديثه ، دارت برأس فروخ أسئلة كثيرة إذ من يكون ذلك الشيخ الشاب الذي عليه كل ذلك الوقار ، والذي يشيع ممن حوله بكل ذلك الإجلال ؟ بادر الفارس العائد إلى رجل يجلس إلى جواره يسأله عن ذلك الشيخ الوقور ، فيعجب الرجل أن أحدا لا يعرفه ، ويستنكر على رجل من أهل المدينة ، ألا يعرفه ولكنه غياب ثلاثين سنة ، فكيف يتسنى له معرفة شيخ كهذا ، ثم إنه لم يتعرف ملامحه ، فيعتذر للرجل عن عدم معرفته لطول غيبته عن المدينة ، يعرف الرجل السبب فيعذره لجهله بمثل هذا الشيخ ، ينطلق الرجل معرفا بالشيخ ، " إن من لا تعرف يا أخي سيد من سادات التابعين ، وعلم من أعلامهم ، وهو محدث المدينة ، وفقيهها وإمامها ، رغم حداثة سنه ، ألا ترى مجلسه يضم مالك ابن أنس وأبا حنيفة النعمان ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد وغيرهم كثير ، وهو فوق ذلك ذو تواضع جم ، وكف أندى من السحاب ، فما عرف أسخى منه نفسا ، ولا أكثر منه عطاء . يقاطعه فروخ ، ولكنك لم تذكر لي اسمه ، رد الرجل ، إنه ربيعة الرأي ، التفت فروخ ربيعة ، ولم يكمل حتى عاجله الرجل إنه سمي بهذا الإسم لرجاحة رأيه فيما أشكل على المسلمين مما لم يرد فيه نص قياسا على ما ورد فيه نص ، اشتاق فروخ ليعرف نسب ربيعة الرأي هذا ، فيرد عليه الرجل إن ربيعة الرأي هو ابن فروخ المكنى بأبي عبد الرحمن ، وقد ولد بعد أن غادر أبوه المدينة جهادا في سبيل الله ، فتولت أمه تربيته وتأديبه وتعليمه ، وإن الناس ليقولون إن أباه عاد الليلة الماضية .

هنا تحدرت من عيني فروخ دموع لم يعرف لها سببا ، ولا تزال عبراته تنحدر على وجهه ، حتى وصل إلى بيته ، فسألته زوجه متهلفة عما به ، فيرد الفارس المجاهد " ما بي إلا الخير ، لقد رأيت ولدي في مقام من العلم والشرف والمجد ما رأيته لأحد من قبل " ، هنا تهللت أسارير الزوجة والأم الصالحة الواعية ، فقد حان لها أن تجيب على سؤاله الذي شغلها ، فاغتنمت الفرصة وقالت : " أيهما أحب إليك ، ثلاثون ألف دينار أم هذا الذي بلغه ولدك من العلم والشرف ؟ فيرد المجاهد : " بل - والله - هذا أحب إلي وآثر عندي من مال الدنيا كله " ، قالت : " إذن فلقد أنفقت ما تركته عندي عليه ، فهل طابت نفسك بما فعلت " ؟! فيقول : " نعم ، وجزيت عني وعن المسلمين خير الجزاء " .
بمثل هذا الوعي في التربية تسود الأمة ، فهل من أمهات كأم ربيعة في زمن عز فيه أمثالها ؟ .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة