غزوة أحد

0 2303

لم تهدأ ثائرة قريش بعد هزيمتهم المنكرة في غزوة بدر ، وما خلفه ذلك من مقتل خيرة فرسانها ، وجرح لكرامتها ، وزعزعة لمكانتها بين القبائل ، فأجمعت أمرها على الانتقام لقتلاها ، وألهب مشاعرها الرغبة الجامحة في القضاء على الإسلام وتقويض دولته .

ولم يكن ذلك الدافع الوحيد لاستعادة هيبتها ، إذ كانت تجارة قريش قد تأثرت بشدة من الضربات المتكررة التي نفذتها سرايا المؤمنين ، وما قامت به من التعرض للقوافل التجارية من أجل قطع الإمدادات والمؤن التي كانت تأتيهم من الشام وما حولها ، فكان لذلك أثره في إنهاك قريش وإضعافها .

لهذا وذاك ، قام أبو سفيان في قومه يؤلب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - ويجمع القوات ، حتى بلغ لديه قرابة ثلاثة ألف رجل ومائتي فارس ، من قريش وما حولها من القبائل العربية ، ثم أمر أبو سفيان الجيش بأخذ النساء والعبيد ، حتى يستميت الناس في الدفاع عن أعراضهم ، وانطلقوا ميممين وجوههم شطر المدينة .

وهنا أحس العباس بن عبدالمطلب بخطورة الموقف – وكان يومئذ مشركا – فبعث برسالة عاجلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - يخبره فيها بخبر القوم ، ويبين له إمكانات الجيش وقدراته الحربية ، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - أراد الاستيثاق مما ورد في هذه الرسالة ، فأرسل الحباب بن المنذر بن جموح رضي الله عنه ليستطلع الخبر ، فعاد إليه مؤكدا ما ورد في الرسالة .

واجتمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - بأصحابه ، وشاورهم في الخروج من المدينة للقاء العدو ، أو البقاء فيها والتحصن بداخلها ، فاختار بعضهم البقاء في المدينة ، ومال النبي - صلى الله عليه وسلم  - إلى هذا الرأي ، بناء على أن جموع قريش لن تقوى على القتال بين الأزقة والطرقات ، ويمكن للنساء والأبناء المشاركة في الدفاع عن المدينة من شرفات البيوت وأسطحها ، كما أن التحصن فيها سيتيح فرصة استخدام أسلحة لها أثرها في صفوف العدو كالحجارة ونحوها .

بينما اختار الخروج إلى العدو الرجال المتحمسون الذين حرموا من شهود يوم بدر ، وتاقت نفوسهم إلى الجهاد في سبيل الله ، وطمعوا في نيل الشهادة ، فألحوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - أن يخرج لقتالهم ، وقالوا له : " يا رسول الله ، كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله ، فقد ساقه إلينا وقرب المسير ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عن لقائهم " ، وأمام هذا الإلحاح لم يجد النبي - صلى الله عليه وسلم  - بدا من اختيار هذا الرأي ، فدخل بيته ولبس عدة الحرب .

ولما أفاقوا من نشوة حماسهم بدا لهم أنهم أكرهوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - على أمر لم يرده ، وشعروا بحرج بالغ ، فتلاوموا فيما بينهم ، وأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - حمزة بن عبدالمطلب ليعتذر عن ذلك فقال : " يا نبي الله ، إن القوم تلاوموا وقالوا : أمرنا لأمرك تبع " ، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - رأى أن من الحزم المضي قدما في اختياره ، فقال : ( إنه لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله ) .

وفي ليلة الجمعة تأهب الناس للخروج ، واستعدوا للقتال ، وعين النبي - صلى الله عليه وسلم  - من يقوم بحراسة المدينة ، ثم تحرك الجيش المكون من ألف رجل وسلكوا طريقا مختصرا تمر بأرض رجل منافق ضرير يقال له "ربعي بن قيظي " – وفي رواية " مربع بن قيظي " ، فلما أحس الرجل بالجيش جعل يحثو التراب في وجوههم ويقول : " لا أحل لكم أن تدخلوا حائطي " ، وذكر أنه أخذ حفنة من تراب ثم قال : " والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك " ، فتواثب القوم إليه ليقتلوه لكن النبي - صلى الله عليه وسلم  - نهرهم وقال : ( لا تقتلوه ؛ فهذا أعمى القلب أعمى البصر ) .

واستمر الجيش في مسيره حتى بلغوا بستانا يقال له " الشوط " ، عندها انسحب عبدالله بن أبي بن سلول بحركة ماكرة ومعه ثلث الجيش يريد أن يوهن من عزائم المسلمين ويفت في عضدهم ، ويوقع الفرقة في صفوفهم ، مبررا ذلك حينا باستبعاده أن يحدث قتال ، وحينا باعتراضه على قرار القتال خارج المدينة ، وقائلا : " أطاع الولدان ومن لا رأي له ، أطاعهم وعصاني ، علام نقتل أنفسنا ؟ " ،  ولقد حاول عبدالله بن حرام رضي الله عنه أن يثنيهم عن عزمهم ، وقال لهم : " يا قوم ، أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر عدوهم " ، فردوا عليه : " لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ، ولكنا لا نرى أن يكون قتال " ، وسجل القرآن هذه الأحداث في قوله تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون } ( آل عمران : 166 - 167  ) .

وكاد هذا الموقف أن يؤثر على المؤمنين من بني سلمة وبني حارثة فيتبعوهم ، ولكن الله عصمهم بإيمانهم ، وأنزل فيهم قوله : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ( آل عمران : 122 ) .

وفي يوم السبت وصل الجيش إلى جبل أحد وعسكر هناك ، واختار النبي - صلى الله عليه وسلم  - أرض المعركة ، وقام بتقسيم أفراد الجيش إلى ثلاث كتائب : كتيبة المهاجرين بقيادة مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وكتيبة الأوس بقيادة أسيد بن حضير رضي الله عنه ، وكتيبة الخزرج يحمل لواءها الحباب بن المنذر رضي الله عنه ، ورد النبي - صلى الله عليه وسلم  - صغار السن ومنعهم من المشاركة ، وبلغوا أربعة عشر غلاما كما يذكر علماء السيرة ، ولم يستثن من الصغار سوى رافع بن خديج رضي الله عنه لبراعته في الرمي ، و سمرة بن جندب رضي الله عنه لقوته الجسدية .

ثم عرج النبي - صلى الله عليه وسلم  - إلى أصحابه فانتخب منهم خمسين راميا ، وأمر عليهم عبدالله بن جبير رضي الله ، وجعلهم على جبل يقال له " عينين " يقابل جبل أحد ، وقال لهم : ( إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ، وانضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ) ، ثم تقدم النبي - صلى الله عليه وسلم  - إلى الصفوف فسواها ، ووضع أشداء المؤمنين في مقدمتهم ، وقال : ( لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال ) .

وفي هذه الأثناء حاول أبو سفيان أن يحدث شرخا في صفوف المؤمنين ، فعمد إلى الأنصار قائلا : " خلوا بيننا وبين ابن عمنا ؛ فننصرف عنكم ، ولا حاجة لنا بقتالكم " ، فقبحوا كلامه وردوا عليه بما يكره ، فجاء رجل يقال له " أبو عامر الراهب " من أهل المدينة ، فأراد أن يثنيهم عن حرب قريش فقال : " يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر " فقالوا له : " فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق " ، فلما سمعهم قال : " لقد أصاب قومي بعدي شر " .

وبدأت المعركة بمبارزة فريدة تبعها التحام بين الصفوف ، واشتد القتال ، وحمي الوطيس ، وكان شعار المسلمين يومئذ : أمت أمت ، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم  - سيفا له وقال : ( من يأخذ هذا السيف ؟ ) فبسطوا أيديهم يريدون أخذه ، فقال : (من يأخذه بحقه ؟ ) ، فأحجم القوم ، فقال أبو دجانة رضي الله عنه أنا آخذه يا رسول الله بحقه ، فما حقه ؟ ، فقال له : ( أن لا تقتل به مسلما ، ولا تفر به عن كافر ) ، فدفعه إليه ، فربط على عينيه بعصابة حمراء ويجعل يمشي بين الصفين مختالا في مشيته ، قائلا :

            أنا الذي عاهدني خليلي   ونحن بالسفح لدى النخيل

                 ألا أقوم الدهر في الكيول  أضرب بسيف الله والرسول

فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - فقال : ( إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع ) ، يقول رواة السيرة : " فأخذ السيف فجعل يقتل به المشركين حتى انحنى " .

وبدأت ملامح النصر تظهر من خلال المواقف البطولية التي أظهرها المسلمون واستبسالهم في القتال ، ومع تقهقر قريش وفرارهم أول الأمر ظن الرماة انتهاء المعركة ، ورأوا ما خلفته من غنائم كثيرة فتحركت نفوسهم طمعا في نيل نصيبهم منها ، فتنادوا قائلين : " الغنيمة أيها القوم ، الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ " ، فقال أميرهم عبد الله بن جبير : " أنسيتم ما قال لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - " ، فلم يلتفتوا إليه وقالوا : " والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة " فغادروا أماكنهم متجهين صوب الوادي .

ووجد خالد بن الوليد في ذلك فرصة سانحة كي يدير دفة المعركة لصالح المشركين ، وبالفعل انطلق مع مجموعة من الفرسان ليلتفوا حول المسلمين ويحيطوا بهم  من كلا الطرفين ، ففوجئ المسلمون بمحاصرتهم ، واستحر القتل فيهم ، وفر منهم من فر ، وتساقط الكثير منهم جرحى ، وفي هذه الأثناء انقطع الاتصال برسول الله - صلى الله عليه وسلم  - .

وكان في المشركين رجل يقال له " ابن قمئة " عمد إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه فأجهز عليه ، وشبه مصعبا بالنبي - صلى الله عليه وسلم  - ، فجعل الرجل يصيح : " قد قتلت محمدا " ، وسرت هذه الإشاعة بين الناس سريعا ، فتفرق المسلمون ، وقعد بعضهم عن القتال وقد أذهلتهم المفاجأة ، في حين استطاع الآخرون أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويطلبوا الموت على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - ، منهم أنس بن النضر رضي الله عنه ، والذي لقي الله وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة سيف ، أو طعنة رمح ، أو رمية سهم ، حتى إن أخته لم تتعرف عليه إلا بعلامة كانت بإبهامه ، وأنزل الله فيه وفي أمثاله : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } ( الأحزاب : 23 ) .

وبينما كان المسلمون في محنتهم تلك ، كان النبي - صلى الله عليه وسلم  - يواجه الموت ، فقد خلص إليه المشركون فكسروا أنفه وسنه ، وشجوا وجهه الشريف حتى سالت منه الدماء ، فجعل يمسح الدم عنه ويقول : ( كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ ) .

وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم  - أن الأمور لن تعود إلى نصابها إلا بكسر هذا الطوق المحكم الذي ضربه المشركون ، فصعد إلى الجبل ومعه ثلة من خيرة أصحابه ، واستبسلوا في الدفاع عنه ، وخلد التاريخ قتال أبي طلحة رضي الله عنه حتى شلت يمينه وأثخنته الجراح ، ووقفة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها وهي ترمي بالقوس تدافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم  - ، وتصدي سعد بن أبي وقاص للذود عنه ورميه للمشركين بالنبال ، وحماية أبي دجانة للنبي - صلى الله عليه وسلم  - حيث جعل نفسه ترسا له عليه الصلاة والسلام  حتى تكاثرت السهام على ظهره .

ومضى النبي - صلى الله عليه وسلم  - ومن معه من أصحابه يشقون الطريق نحو المشركين ، فأبصره كعب بن مالك رضي الله عنه فنادى بأعلى صوته : " يا معشر المسلمين ، أبشروا فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - " ، فأسكته النبي - صلى الله عليه وسلم  - لئلا يتفطن إليه المشركون ، لكن الخبر كان قد وصل إلى المسلمين ، فعاد  إليهم صوابهم ، وارتفعت معنوياتهم ، لتعود المعركة أشد ضراوة من قبل ، وأقبل أبي بن خلف على فرس له هاتفا بأعلى صوته : " أين محمد ؟ لا نجوت إن نجا " ، فهب إليه قوم ليقتلوه ، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم  - منعهم من ذلك ، ولما اقترب منه طعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - في ترقوته ، فاحتقن الدم فيه ، وجعل يصيح ويقول : قتلني والله محمد ، فقال له المشركون : ما بك من بأس ، فقال : " والله لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين " ، فلم يلبث قليلا حتى مات .

وكان الأصيرم - عمرو بن أقيش- يأبى الإسلام ، فلما كان يوم أحد ، قذف الله الإسلام في قلبه ، فأسلم وأخذ سيفه ، فقاتل ، حتى أثخن بالجراح ، ولم يعلم أحد بأمره ، فوجده قومه وبه رمق يسير ، فقالوا : والله إن هذا الأصيرم ، ثم سألوه : " ما الذي جاء بك ؟ أنجدة لقومك ، أم رغبة في الإسلام ؟ " ، فقال : " بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت " ، ومات من وقته ، فذكروه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم  - ، فشهد له بالجنة ، ولم يصل لله سجدة قط .

وعلم الله ما بعباده من الهم والغم ، والخوف والألم ، فأنزل عليهم نعاسا ناموا فيه وقتا يسيرا ، ثم أفاقوا وقد زالت عنهم همومهم ، وفي ذلك يقول الله عزوجل : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } ( آل عمران : 154 ) ، يقول أبو طلحة رضي الله عنه واصفا تلك الحال : " كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد ، حتى سقط سيفي من يدي مرارا ، يسقط وآخذه ، ويسقط فآخذه " .

وانكشفت المعركة عن مقتل سبعين صحابيا وجرح العديد منهم ، بعد أن انصرف المشركون مكتفين بالذي حققوه ، و لحقت الهزيمة بالمسلمين لأول مرة في تاريخهم نتيجة مخالفتهم أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - ، وأنزل الله في شأن هذه الغزوة نحوا من خمسين آية في سورة آل عمران ، واصفا أحداثها ، ومبينا أسباب النصر والهزيمة ، وغيرها من الدروس والعبر ، والحق أن هذه الغزوة زاخرة بالأحداث المهمة ، والمواقف البطولية ، حال دون ذكرها خشية الإطالة ، ولنا معها وقفة أخرى نتناول فيها الأحداث التي أعقبت هذه الغزوة ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة