قصة الإفك...بين المحنة والمنحة

4 1517

{ إن الذين جاءو بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم } ( النور : 11 ) كلمات ربانية جاءت لتلخص أحداثا عاش المسلمون في ظلها أياما عصيبة ، وفتنة كادت أن تورد الناس موارد الهلكة ، وإشاعات مغرضة استهدفت بيت النبوة ، وأرادت تشويه صورته النقية التي ظلت محفوظة في صدور المؤمنين ، ولم يكن المقصود منها الوقوف عند شخص النبي  - صلى الله عليه وسلم  - وآل بيته ، بل أريد بها الطعن في نبوته ورسالته .

وتجري فصول هذه الحادثة في وقت كان المسلمون فيه على موعد مع العدو في إحدى الغزوات ، حيث خرج رسول الله  - صلى الله عليه وسلم  - في جيشه مصطحبا معه عائشة رضي الله عنها ، وفي طريق العودة توقف الجيش للراحة والنوم ، وجلست عائشة رضي الله عنها في مركبها تترقب لحظة المسير ، وتلمست نحرها لتكتشف أنها أضاعت عقدا لأختها كانت قد أعارتها إياه ، فما كان منها إلا أن نزلت من مركبها لتبحث عنه في ظلام الليل ، ولم تكن تدري أن المنادي قد آذن بالرحيل ، وأن الرجال قد جهزوا رحلها ظانين أنها بداخله ، وأن الجيش قد انطلق وتركها وحيدة في تلك الصحراء الموحشة .

وما أن وجدت العقد حتى عادت مسرعة لتلحق بركب الجيش ، ولكن الوقت فات ، حيث لم تجد سوى الآثار التي خلفوها وراءهم ، فحارت ولم تدر ما تصنع ، ثم فكرت في العودة إلى موضع مركبها لعل الجيش يفتقدها ويرسل من يأتي بها ، وهكذا فعلت ، وجلست هناك حتى غلبها النوم في مكانها .

وفي هذه الأثناء ، كان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه يسير خلف الجيش ليحمل ما سقط من المتاع ، فأدركه الصباح في الموطن الذي كان فيه الجيش ، وإذا به يرى سواد امرأة نائمة ، فعرف أنها عائشة رضي الله عنها ، والتي أحست به فغطت وجهها ، تقول عائشة رضي الله عنها : " فوالله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه شيئا غير قوله : إنا لله وإنا إليه راجعون " ، فنزل عن راحلته وطلب منها أن تصعد ، ولما ركبت الناقة انطلق بها موليا ظهره لها ، حتى استطاع أن يدرك الجيش في الظهيرة .

ولم تمض سوى أيام قليلة حتى انتشرت في المدينة إشاعات مغرضة وطعونات حاقدة في حق عائشة رضي الله عنها ، روجها ونسج خيوطها زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ، ووجدت هذه الافتراءات طريقها إلى عدد من المسلمين ، الذين تلقوها بحسن نية ونقلوها إلى غيرهم ، كان منهم حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه شاعر النبي  - صلى الله عليه وسلم  - ، و مسطح بن أثاثة رضي الله عنه أحد أقرباء أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، و حمنة بنت جحش رضي الله عنها ابنة عمة النبي  - صلى الله عليه وسلم  - وأخت زوجته ، وعصم الله من بقي من الصحابة عن الخوض في ذلك ، وكان لسان حالهم ومقالهم كما قال القرآن { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} (النور:16).

وبلغت تلك الأحاديث سمع النبي  - صلى الله عليه وسلم  - فكان وقعها عليه شديدا ، ولنا أن نتصور المشاعر المختلفة التي كانت تدور في نفس النبي  - صلى الله عليه وسلم  - ، والمعاناة الطويلة التي عاشها في ظل هذه الأحداث ، وهو يرى الألسنة تنال من عرضه ، وتطعن في شرفه ، ولا يملك أن يضع لذلك حدا أو نهاية .

وعلى الجانب الآخر ، لم تكن عائشة تدرك ما يدور حولها من أقاويل الناس ، فقد حل بها مرض ألزمها الفراش طيلة هذه المدة ، إلا أنها أحست بتغير في معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم -  ، فبعد أن كانت تجد منه اللمسة الحانية ، والكلمة الرقيقة ، والمشاعر الفياضة ، إذا بها تفقد ذلك كله ، وتلحظ اقتصاره - صلى الله عليه وسلم – على الكلمات القليلة ، واكتفاءه بالسؤال عن حالها ، وهي تحاول أن تجد تفسيرا لهذا التحول المفاجيء .

وفي ليلة من الليالي خرجت عائشة رضي الله عنها مع أم مسطح إلى الصحراء لقضاء الحاجة - كعادة النساء في ذاك الزمان - ، فتعثرت أم مسطح بثوبها وقالت : " تعس مسطح " ، فاستنكرت عائشة منها هذا القول وقالت : "بئس ما قلت ، أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ " ، وعندها أخبرتها أم مسطح بقول أهل الإفك.

وكانت مفاجأة لم تخطر لها على بال ، وفاجعة عظيمة تتصدع لها قلوب الرجال ، فكيف ببنت السادسة عشرة ؟ ، وهي تسمع الألسن توجه أصابع الاتهام نحو أغلى ما تملكه امرأة عفيفة ، فكيف بزوجة نبي الله وخليل الله ؟ .

وكان من الطبيعي أن تؤثر هذه الإشاعة على صحة عائشة رضي الله عنها فتزداد مرضا على مرض ، ولم يمنعها ذلك من الوقوف على ملابسات القضية ، فبمجرد أن عادت إلى البيت استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم  -  في الذهاب لأبويها ، فلما رأتها أمها قالت : " ما جاء بك يا بنية  " فقصت عليها الخبر ، وأرادت الأم أن تواسيها فبينت لها أن هذا الكلام حسد لها على جمالها ومكانها من النبي  - صلى الله عليه وسلم  - .

ولم يعد هناك مجال للشك ، فها هي والدتها تؤكد ذلك ، وعظم عليها أن تتخيل الناس وهم يتحدثون في شأنها ، تقول عائشة رضي الله عنها : "..فبكيت تلك الليلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت ".

وطال انتظار النبي  - صلى الله عليه وسلم  - للوحي فاستشار علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد رضي الله عنهما ، أما أسامة فأخبره بالذي يعلمه من براءة أهله ، وأما علي فقد أحس بالمعاناة النفسية التي يعيشها النبي  - صلى الله عليه وسلم  - ، فأراد أن يريح خاطره ، فأشار عليه بأحد أمرين : إما أن يفارقها ويتحقق من براءتها لاحقا ، وحينها يمكنه إرجاعها ، وإما أن يطلع على حقيقة الأمر بسؤال بريرة مولاة رسول الله  - صلى الله عليه وسلم  - .

فدعا رسول الله  - صلى الله عليه وسلم  - بريرة وقال لها : ( هل رأيت من شيء يريبك ) ، فقالت : " لا والذي بعثك بالحق ما علمت فيها عيبا " ، ثم ذكرت  صغر سنها وأنها قد تغفل عن العجين الذي تصنعه حتى تأتي الشاة تأكله ، وسأل رسول الله  - صلى الله عليه وسلم  - زينب بنت جحش رضي الله عنها عن أمرها فقالت : " يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري ، ما علمت إلا خيرا " .

وكانت هذه الشهادات كافية أن يصعد النبي  - صلى الله عليه وسلم  - المنبر ، ويطلب العذر من المسلمين ، في رأس الفتنة عبد الله بن أبي بن سلول ، وذلك بقوله : ( يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ؟ ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا – يعني صفوان بن المعطل - ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ) ، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال : " يا رسول الله ، أنا أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك " ، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وقد أخذته العصبية فقال لسعد : " كذبت ، لا تقتله ولا تقدر على قتله " ، واختلف الأوس والخزرج ، وكاد الشيطان أن يوقع بينهم ، فلم يزل رسول الله  - صلى الله عليه وسلم  - يهدئهم حتى سكتوا .

وبعد أن بلغت القضية هذا الحد ، لم يكن هناك مفر من الذهاب إلى عائشة رضي الله عنها لمصارحتها بالمشكلة واستيضاح موقفها ، فدخل عليها النبي  - صلى الله عليه وسلم  - ومعها امرأة من الأنصار ، فجلس النبي  - صلى الله عليه وسلم  - وتشهد ثم قال : ( أما بعد ، يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ؛ فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه ) ، فلما سمعت قوله جفت دموعها ، والتفتت إلى أبيها فقالت : " أجب رسول الله فيما قال " ، فقال : " والله ما أدري ما أقول لرسول الله  - صلى الله عليه وسلم  - " ، ثم التفتت إلى أمها فكان جوابها كجواب أبيها ، وعندها قالت : " لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم أني منه بريئة - والله يعلم أني منه بريئة - لا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقنني ، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف حين قال : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } ( يوسف : 18 ) .

ثم استلقت رضي الله عنها على فراشها ، وهي تستعرض الحادثة في ذهنها منذ البداية وحتى هذه اللحظة ، وبدا لها أن آخر فصول هذه القصة ستكون رؤيا يراها النبي  - صلى الله عليه وسلم  - تثبت براءتها ، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يخلد ذكرها إلى يوم القيامة ، وإذا بالوحي يتنزل من السماء يحمل البراءة الدائمة ، والحجة الدامغة في تسع آيات بينات ، تشهد بطهرها وعفافها ، وتكشف حقيقة المنافقين ، فقال تعالى : {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } ( النور : 11 ) .

وانفرج الكرب ، وتحول حزن الرسول  - صلى الله عليه وسلم  - فرحا ، فقال لها : ( أبشري يا عائشة ، أما الله عز وجل فقد برأك ) ، وقالت لها أمها : " قومي إليه " ، فقالت عائشة رضي الله عنها امتنانا بتبرئة الله لها ، وثقة بمكانتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - ومحبته لها : " والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله عزوجل " .

وأراد أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يعاقب مسطح بن أثاثة لخوضه في عرض ابنته ، فأقسم أن يقطع عليه النفقة ، وسرعان ما نزل الوحي ليدله على ما هو خير من ذلك : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } ( النور : 22) ، فقال أبو بكر : " بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي " ، فرجع إلى نفقته وقال : " والله لا أنزعها منه أبدا ".

وبعد : فحديث الإفك الذي رميت به أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق ما هو إلا حلقة من حلقات التآمر على الدعوة ، ومحاولة تشويه رموزها ؛ وذلك لعلم العدو أن هذا الدين يقوم على المثال والنموذج والقدوة ، فإذا أفلح في إسقاط هذا النموذج وتشويه تلك القدوة ، فقد تحقق له ما أراد ، فمتى نعي ذلك ؟ .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة