الأحداث عقب غزوة أحد

0 1417

" قد قتلت محمدا "...." قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله " ..." يا معشر المسلمين ، أبشروا فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - حي "... ( كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ ) ...ظلت هذه العبارات محفورة في نفوس المؤمنين ، لتعيد إليهم ذكريات المعركة القاسية ، وتزيد من آلامهم وتجدد عليهم أحزانهم ، فها هم اليوم يذوقون طعم الهزيمة الذي لم يألفوه ، وها هم يخرجون من المعركة بأجساد أثقلتها الجراح وأجهدها التعب ، ونفوس آلمتها الهزيمة وأنهكتها المعاناة ، ناهيك عن فقد الأحبة ، ومشاهد القتلى هنا وهناك .

ويقابل ذلك مشهد قريش وهي تحتفل بنصرها الذي حققته ، بعد أن ربحت هذه الجولة من صراعها الطويل ضد الإسلام والمسلمين ، راجية أن تكون هذه المعركة بداية السقوط لأعدائهم وخصومهم .

وفي غمرة هذه النشوة بالانتصار ، والتهيؤ للعودة إلى مكة ، انطلق أبو سفيان إلى معسكر المسلمين ليتحقق من موت خصومه ، ويتفقد نتائج المعركة ، ولم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - بينهم ، فسألهم إن كان محمد حيا ، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم  - عن إجابته ، فعاد يسأل إن كان أبوبكر رضي الله عنه بينهم ، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم  - : ( لا تجيبوه ) ، ثم سأل عن عمر بن الخطاب  ولم يجبه أحد ، فظن أنهم قد قتلوا جميعا ، فاشتد فرحه لذلك وقال : " إن هؤلاء قتلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا " ، عندئذ لم يتمالك عمر رضي الله عنه نفسه ، فرد عليه : " يا عدو الله ، إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك " ، فاشتد غيظ أبي سفيان من هذه الإجابة ، وأطلق هتافات التمجيد لأصنامه وآلهته قائلا : " اعل هبل " ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم  - أن يجيبوه بقولهم : " الله أعلى وأجل " ، فقال أبو سفيان : " لنا العزى ولا عزى لكم " ، فردوا عليه : " الله مولانا ولا مولى لكم " ، فعاود المحاولة ، وذكرهم بأن انتصار قريش في هذه المعركة يقابل انتصارهم  يوم بدر ، فصاح عمر قائلا : " قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار " ، ولم يجد أبو سفيان ما يقوله ، فعاد إلى قومه خائبا.

وبعدها ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم  - ليتفقد أحوال الجرحى والشهداء ، فرأى ثلة من خيرة أصحابه قد فاضت أرواحهم إلى خالقها ، فقال فيهم وفي أمثالهم : ( أشهد على هؤلاء ، ما من مجروح يجرح في الله عز وجل إلا بعثه الله يوم القيامة ، وجرحه تجري دما : اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ) رواه أحمد ، وأنزل الله تعالى قوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ( آل عمران : 169 ) .

وافتقد النبي – صلى الله عليه وسلم - سعد بن الربيع فأرسل إليه رجلا من الأنصار لينظر في حاله ، فوجده جريحا قد طعن اثنتي عشرة طعنة وهو يحتضر ، فطلب منه سعد أن يبلغ السلام لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- ، وأن يوصل رسالة إلى قومه بأن يتفانوا في الدفاع عن رسول الله ، ثم فاضت روحه بعد ذلك .

وكان من بين الجرحى الأصيرم - عمرو بن ثابت - وهو رجل مشهور بعداوته للإسلام ، فلما رآه الصحابة تعجبوا ، وذهبوا إليه يسألونه عن سبب مشاركته في القتال ، وهل كانت مجرد حماسة للدفاع عن قومه أم أنها نابعة عن إيمان ويقين ؟ ، فقال : " بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله ورسوله وأسلمت ، ثم أخذت سيفى فغدوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقاتلت حتى أصابني ما أصابني " ، ثم لم يلبث أن مات بين أيديهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إنه لمن أهل الجنة ) رواه أحمد .

وأتي النبي – صلى الله عليه وسلم - بمصعب بن عمير ، وقد قطعت يداه ، فقرأ قوله تعالى : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديل } ( الأحزاب : 23 ) ، وبحث له الصحابة عن كفن فلم يجدوا غير كساء قصير ، إذا غطوا به قدميه ظهر رأسه ، وإذا غطوا به رأسه بدت قدماه ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغطوا به رأسه ويجعلوا على قدميه شيئا من نبات الإذخر .

ووجد بين الشهداء حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه ، الذي كان عروسا تلك الليلة ، وسمع نداء الجهاد ، فخرج قبل أن يغتسل ، وقاتل حتى قتل ، فقال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إن صاحبكم لتغسله الملائكة ) رواه البيهقي ، ومن ذلك اليوم وهو يلقب بـ : " غسيل الملائكة " .

ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم  -بجمع الشهداء لدفنهم ، فكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد دون أن يغسلهم أو يصلي عليهم ، وربما جمع الرجلين في ثوب واحد ، ويقدم في اللحد أكثرهم قراءة للقرآن ، كما فعل مع عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح رضي الله عنهما ؛ لما بينهما من المحبة .

وجاءت  أشد اللحظات قسوة على - النبي صلى الله عليه وسلم - ، وهي لحظة رؤية عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وقد شوه المشركون جسده وقطعوا أطرافه ، على نحو  يعكس الوحشية والهمجية التي كانت عليها قريش .

مشهد مرير تتضاءل أمامه كل الأهوال التي مرت في ثنايا المعركة ، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكاء شديدا لم ير الصحابة له مثيلا .

ولما هدأت نفسه النبي التفت إلى أصحابه قائلا : ( لولا أن تحزن صفية ، ويكون سنة من بعدي ، لتركته حتى يبعثه الله في بطون السباع والطير )  رواه الدارقطني .

وأقبلت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها تتفقد أحوال أخيها حمزة ، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم  - أن ترى ما أصابه فلا تتمالك نفسها ،  فأرسل إليها ولدها الزبير بن العوام كي يمنعها ، ولكنها ردت عليه قائلة : " ولم ؟ ، وقد بلغني ما فعل به ، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله " ، وعاد الزبير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - ليخبره بجوابها ، فأذن لها برؤيته .

ولم تجزع صفية عند رؤية أخيها ، بل صبرت وتحملت ، وجعلت تردد : " إنا لله وإنا إليه راجعون " ، ثم أخرجت ثوبين جاءت بهما لتكفينه ، يقول عبدالله بن الزبير : " فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة ، فإذا بجانبه قتيل من الأنصار قد فعل به كما فعل بحمزة ، فاستحيينا أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له ، فقلنا : لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب ، فكفنا كل واحد منهما في ثوب " .

وهذا الصبر الذي لمسناه من صفية رضي الله عنها قد تكرر عند مثيلاتها ممن أصبن بمصابها ، فقد روت كتب السيرة قصة المرأة التي استشهد زوجها وأخوها وأبوها في تلك المعركة ، فلما علمت بمقتلهم لم تلق لذلك بالا ، وكان أكبر همها أن تطمئن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - ، فجعلت تسأل الناس : " ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " حتى قيل لها : " هو بحمد الله كما تحبين " ، فلم تطمئن لذلك ، وأصرت على رؤيته ، فلما رأته طابت نفسها .

ومثلها أم سعد بن معاذ رضي الله عنهما حين خشيت أن يكون الأذى قد لحق  برسول الله - صلى الله عليه وسلم  - ، فانطلقت إليه مسرعة ، ولما رأته حيا معافى أظهرت فرحها بسلامته ، فعزاها النبي - صلى الله عليه وسلم  - في ولدها عمروبن معاذ وبشرها ، ودعا لها بحسن الخلف .

وهكذا انتهت غزوة أحد بلآلامها ومتاعبها ، ولم تكن خاتمة المطاف في صراع الإيمان والكفر ، والمواجهة بين الحق والباطل ، وإنما كانت حلقة ضمن حلقات طويلة ، خاضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الدعوة إلى الله ، وتثبيت دعائم الدولة الإسلامية.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة