المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

1 1966

لو لم يشر القرآن الكريم إلى قصة المؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأنصار ، ولو لم تأت النصوص النبوية الصحيحة والشواهد التاريخية الموثقة لتؤكد هذه الحادثة ، لقلنا إنها قصة من نسج الخيال ، وذلك لأن مشاهدها وأحداثها فاقت كل تصور ، وانتقلت بعالم المثال والنظريات إلى أرض الواقع والتطبيق ، وفي ظلها قدم الصحابة الكثير من صور التفاني والتضحية على نحو لم يحدث في تاريخ أمة من الأمم ، مما يجعلنا بحاجة إلى أن نقف أمام هذا الحدث نتأمل دروسه ، ونستلهم عبره .

تبدأ القصة عندما خرج المهاجرون من مكة المكرمة ، ليصلوا إلى أرض جديدة وواقع مختلف ، وكان من أثر هذه الرحلة نشوء عدد من المشكلات الجديدة ، ليس أقلها : الشعور بالغربة ومفارقة الأهل والديار ، وترك معظم الأموال والممتلكات في مكة ، وطبيعة الوضع المعيشي والاقتصادي الجديد ، أضف إلى ذلك الآثار الصحية والبدنية التي أحدثها الانتقال المفاجيء إلى بيئة أخرى ، مما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمى وغيرها .

كل هذه الظروف تجمعت لتشكل ضغوطا نفسية كبيرة ، كان لا بد معها من حلول عملية سريعة تعوضهم ما فقدوه في غربتهم ، وتعيد لهم كرامتهم ، وتشعرهم بأنهم لن يكونوا عبأ على إخوانهم الأنصار .

فكان أول عمل قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بناء المسجد تشريع نظام المؤاخاة ، والتي تم إعلانها في دار أنس بن مالك رضي الله عنه ، وهي رابطة تجمع بين المهاجري والأنصاري ، تقوم على أساس العقيدة ، وتوثق مشاعر الحب والمودة ، والنصرة والحماية ، والمواساة بالمال والمتاع .

وهذه المؤاخاة أخص من الأخوة العامة بين المؤمنين جميعا ، وذلك لأنها أعطت للمتآخيين الحق في التوارث دون أن يكون بينهما صلة من قرابة أو رحم ، كما في قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } ( النساء : 33 ) .

وقد استمر العمل بقضية التوارث زمنا ، حتى استطاع المهاجرون أن يألفوا المدينة ويندمجوا في المجتمع ، وفتح الله لهم أبواب الخير من غنائم الحرب وغيرها ما أغناهم عن الآخرين ، فنسخ الله تعالى العمل بهذا الحكم ، وأرجع نظام الإرث إلى ما كان عليه ، وذلك في قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } ( الأنفال : 75 ) ، مع بقاء العمل بالنصرة ، وتبادل العطايا ، وإسداء المشورة والنصيحة ، وغيرها من معاني الأخوة .

وتذكر لنا مصادر السيرة أسماء بعض الذين آخى بينهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد آخى بين أبي بكر و خارجة بن زهير ، وآخى بين عمر بن الخطاب و عتبان بن مالك ، وبين أبي عبيدة بن الجراح و سعد بن معاذ ، وبين الزبير بن العوام و سلامة بن سلامة بن وقش ، وبين طلحة بن عبيد الله و كعب بن مالك ، وبين مصعب بن عمير و أبو أيوب خالد بن زيد رضي الله عنهم أجمعين ، وأسماء أخرى بلغت تسعين صحابيا .

وعند مراجعة أسماء هؤلاء الصحابة ، نجد أن تلك المؤاخاة لم تقم وزنا للاعتبارات القبلية أو الفوارق الطبقية ، حيث جمعت بين القوي والضعيف ، والغني والفقير ، والأبيض والأسود ، والحر والعبد ، وبذلك استطاعت هذه الأخوة أن تنتصر على العصبية للقبيلة أو الجنس أو الأرض ، لتحل محلها الرابطة الإيمانية ، والأخوة الدينية .

وقد سجل التاريخ العديد من المواقف المشرقة التي نشأت في ظل هذه الأخوة ، ومن ذلك ما حصل بين عبدالرحمن بن عوف و سعد بن الربيع رضي الله عنهما ، حيث عرض سعد على أخيه نصف ماله ليأخذه ، بل خيره بين إحدى زوجتيه كي يطلقها لأجله ، فشكر له عبد الرحمن صنيعه وأثنى على كرمه ، ثم طلب منه أن يدله على أسواق المدينة ، ولم يمر وقت قصير حتى استطاع عبدالرحمن بن عوف أن  يكون من أصحاب المال والثراء .

 ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل إن كثيرا من الأنصار عرضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم الأراضي الزراعية بينهم وبين إخوانهم من المهاجرين ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن تقوم هذه المواساة دونما إضرار بأملاكهم ، فأشار عليهم بأن يحتفظوا بأراضيهم مع إشراك إخوانهم المهاجرين في الحصاد ، وقد أورث صنيعهم هذا مشاعر الإعجاب في نفوس المهاجرين ، حتى إنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ما رأينا قوما قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ، ولا أحسن بذلا في كثير منهم ، لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله " ، كما كانت تضحياتهم ومواقفهم النبيلة سببا في مدح الله لهم بقوله : { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } ( الحشر : 9 ) .

وقد حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الفضل للأنصار ، فمدحهم بقوله : ( لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا ، لسلكت في وادي الأنصار ) رواه البخاري ، وبين حبه لهم بقوله ( الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ، ولا يبغضهم إلا منافق ؛ فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله ) رواه البخاري ، ودعا لأولادهم وذرياتهم بالصلاح فقال : ( اللهم اغفر للأنصار ، ولأبناء الأنصار، ولأزواج الأنصار ، ولذراري الأنصار ) رواه أحمد ، وآثر الجلوس بينهم طيلة حياته فقال : ( لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ) رواه البخاري .

وبهذا نستطيع أن نلمس عظمة هذا الجيل الذي تربى على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عندما كانت الأخوة الإيمانية هي الأساس لعلاقاتهم ، فما أحوجنا إلى أن نتخذ هذا المجتمع الفريد قدوة لنا في تعاملنا وعلاقاتنا .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة