الخطأ .. والاعتذار

0 1304

الكلمة ما أن تخرج من الفم حتى تستحيل إعادتها؛ والكلمة المكتوبة، أي الكتابة، أعظم شأنا وأهمية من الكلمة المنطوقة، فالتفكير، في شكله "الرسمي"، أو في شكله الأكثر رقيا، إنما هو الكتابة. أما "الخطأ" المرتكب فليس من جنس واحد، فهو أولا يختلف في ثقله، أو وزنه، بحسب اختلاف ثقل، أو وزن، مرتكبه. و"الخطأ" يختلف في منسوب المنطق الذي يشتمل عليه، فأنت تخطئ عندما تقول 1 + 1 = 3؛ ولكن خطأك هذا يعدل قطرة في بحر الخطأ في قولك 1 + 1 = قرد!

والمخطئ لا يعتذر عن خطأ ارتكبه في حقك إذا لم يقتنع بأنه أخطأ، أو إذا لم تخلق له أنت مصلحة حقيقية في أن يعترف بأنه أخطأ، وفي أن يعتذر إليك من ثم عنه.

كل هذا الذي قلت لا بد من قوله قبل، ومن أجل، فهم حقيقة كل ما قاله، أو اقتبسه، البابا بينيديكتوس السادس عشر في محاضرته "الأكاديمية"، والوقوف منه، ومنها، أي من المحاضرة، موقفا سليما.

الاقتباس البابوي من كتاب للإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني لم يورده البابا في محاضرته إلا في سبيل تعزيز وجهة نظره الشخصية والرسمية، وكأنه أراد أن يقول: جئتكم بهذا الاقتباس مصداقا لقولي ووجهة نظري في أن الإسلام عقيدة نشرت، وتنشر، بحد السيف، ولا تقيم وزنا للعقل في مساعي نشرها. لو كان للبابا رأيا آخر، أو مخالفا، لقال في محاضرته، أو بعدها، إنه يعارض، أو لا يؤيد، قول ذلك الإمبراطور: "أرني ما الجديد الذي جاء به محمد. لن تجد إلا أشياء شريرة، وغير إنسانية، مثل أمره بنشر الدين، الذي كان يبشر به، بحد السيف".

لقد أراد البابا أن يعرب عن رأيه الشخصي والرسمي في الإسلام فأعرب عنه عبر قول ذلك الإمبراطور الذي ثبت، من خلال محاضرة البابا، أنه لم يمت إلا جسدا، فروحه ما زالت حية في تلك المحاضرة، التي لا يمكن وفهمها وتفسيرها إلا على أنها مصالح وأهداف دنيوية صرف لبست اللبوس الديني لعلها تبتني لها، ولذويها، قاعدة شعبية واسعة من المؤمنين الكاثوليك.

لسنا ضد حق البابا في أن يفهم الإسلام كما يشاء، وفي أن يقف منه الموقف الذي يشاء. لسنا ضد حقه في أن ينطق بما يعتقده حقيقة، أو في تشويه وتزوير الحقيقة؛ ولكننا ضد الهدف السياسي الكامن في محاضرته "الأكاديمية". ضد انضمامه إلى المساعي والجهود الإيديولوجية المبذولة من أجل نشر التعصب الديني هنا وهناك، وإشعال فتيل حروب دينية، لا هدف لمشعليها سوى تحويل العامة من المؤمنين الكاثوليك، ومن المؤمنين المسيحيين على وجه العموم، إلى وقود لحروب ذوي المصالح الإمبريالية والفئوية الضيقة، الذين لا يستطيعون الصيد إلا في المياه الدينية العكرة.

البابا عين أولا مسلمته الفكرية الأولى وهي أن الإسلام والسيف صنوان أو توأمان. ثم شرع يقيم الدليل "المنطقي" على تضاد العلاقة بين الإسلام والله، وكأنه أراد أن يخاطب المشاعر الدينية لنحو مليار ونصف المليار مسلم قائلا: دينكم ليس من عند الله.

وشرح منطقه على النحو الآتي: الله لا يحب الدم، ولا يريد لمشيئته أن تعلو بحد السيف. يريد لها أن تعلو بـ "عقل الإنسان" فحسب، فالله، في طبيعته، محب للعقل والمنطق، ويريد لمشيئته أن تعلو وتسود عبر اقتناع عقل الإنسان بها.

ثم خلص إلى الاستنتاج، أو الحكم، الآتي: "العقيدة المسيحية تقوم على المنطق؛ أما العقيدة الإسلامية فتقوم على أساس أن إرادة الله لا تخضع لمحاكمة العقل أو المنطق"، أي أنها مخالفة لطبيعة الله، ولا يمكن، بالتالي، أن تكون من عنده.

وبعد كل ذلك، أعرب عن "حزنه الشديد" لردة الفعل التي أثارتها "فقرة صغيرة" وردت في محاضرته، و"اعتبرت مهينة لمشاعر المؤمنين المسلمين"، مع أن تلك الفقرة الصغيرة المقتبسة "لا تعبر، في أي شكل من الأشكال، عن "تفكيره الشخصي"، فهلا أوضح لنا كيف أن تلك الفقرة لا تعبر، في أي شكل من الأشكال، عن تفكيره الشخصي، والفرق، إذا ما وجد، بين تفكيره الشخصي وتفكيره الرسمي.

مواد ذات صلة