الانتصار

0 869

إن صفة التوازن التي تميز بها ديننا تجعل المؤمن في بعض المواطن متواضعا متسامحا، يعفو ويصفح، وإذا ما غضب يغفر، وفي مواطن أخرى تجده أبيا حريصا على مروءته، مطالبا بحقه، مقتصا من ظالمه، منتصرا من المسيء إليه، فمتى يكون الانتصار؟

يوضح ابن العربي جواب هذا التساؤل بقوله: "أن يكون الباغي معلنا بالفجور، وقحا في الجمهور، مؤذيا للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل". ويصف الحالة المقتضية للعفو فيقول: "أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو هاهنا أفضل".

وأكد هذا المعنى  الطبري في أحكامه، ووافق ابن العربي في أن أفضلية الانتصار تفهم من قول إبراهيم النخعي عن السلف: "كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق". وخصص العفو فيما إذا كان الجاني نادما مقلعا.

وقد استحسن القرطبي هذا التفصيل وأقره، وحمل الغفران على غير المصر، وقال: "فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه".

ومما ذكره القرطبي في تفسير قوله تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} [الشورى:39]. "هو عام في بغي كل باغ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه". وبعد أن عرض القرطبي جملة من الأقوال علق قائلا: "وبالجملة العفو مندوب إليه، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال، فيرجع ترك العفو مندوبا إليه .. وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الأذى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل عليه". واستدل بحديث انتصار عائشة من زينب رضي الله عنهما، وسيأتي تفصيله.

جاء في تفسير الآية: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون * وجزاء سيئة سيئة مثلها}. أي ينتقمون ممن بغى عليهم ولا يستسلمون لظلم المعتدي.. قال أبو السعود: هو وصف لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل، وهذا لا ينافي وصفهم بالغفران، فإن كلا في موضعه محمود {وجزاء سيئة سيئة مثلها} أي: وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي بالزيادة. قال الفخر الرازي: لما قال الله تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيدا بالمثل دون زيادة، وإنما سمى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به".

ولما استفتى الإمام مالك في قول سعيد بن المسيب: "لا أحلل أحدا". وجه هذا القول في عدم التجاوز عن الرجل الظالم، فقال: "لا أرى أن يجعله من ظلمه في حل". وعلل ابن العربي فتوى مالك بقوله: "إن كان ظالما فمن الحق ألا تتركه لئلا تغتر الظلمة ويسترسلوا في أفعالهم القبيحة".

ويؤكد الصاوي في حاشيته على الجلالين هذا المعنى فيقول: "من مكام الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغرض، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخل بالمروءة". وأما إذا انتهكت حرمات الله "فالواجب حينئذ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، وقال الشاعر: وحلم الفتى في غير موضعه جهل".

وفي تفسير قوله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم...} [النساء:148] نقل القرطبي في تفسير الآية على قراءة من قرأ {إلا من ظلم} قول أبي إسحاق الزجاج: "يجوز أن يكون المعنى: إلا من ظلم فقال سوءا فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه". وعلق القرطبي قائلا: "قلت: ويدل على هذا أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا على أيدي سفهائكم"، وقوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قالوا: هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تكفه عن الظلم".

وفي حديث طويل تنتدب نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة زينب رضي الله عنها لطلب مساواتهن بالسيدة عائشة رضي الله عنها؛ إذ كن يشعرن أن لها في قلبه منزلة ليست لغيرها، وكن يرين هدايا الناس تأتي أكثر ما تأتي حين يكون في بيت عائشة.. واستطالت زينب على عائشة بالكلام وعائشة تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقول: "حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر..". وفي رواية: "حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دونك فانتصري)". فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فيها، ما ترد علي شيئا، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه".

ولا يجوز للمنتصر أن يتعدى على  أخيه المسلم بأكثر مما أساء إليه، ولا يحق له أن يغمطه حقه، ففي رواية مسلم لحديث عائشة السابق تقول عائشة وفاء لضرتها التي كانت تساميها في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سورة من حدة كانت فيها، تسرع منها الفيئة". وذلك أدب النبوة، فمع مبادأتها بالسباب لم تتجاوز حد العدل، ولم تغفل عن أن تعذرها.

ويجب أن نفرق بين انتصارنا من أخينا الذي غلب خيره والانتصار من الظالم المصر أو الكافر المستكبر، وإذا توقعت أن انتصارك من أخيك المسيء إليك قد يزيد الشر، ويوغل في التمادي وتفاقم الخطب، فاسدد أبواب الشيطان وقدر المصالح والمفاسد.

وفي سنن أبي داود حديث بهذا المعنى، فقد ورد أن رجلا وقع بأبي بكر فآذاه - بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم - ولما آذاه الثالثة انتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: "أوجدت علي يا رسول الله؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان". قال الخطابي في شرح الحديث: "إنما وقع الشيطان حين انتصر أبو بكر لأن انتصاره يغري صاحبه - سيما وقد بدا الشر منه بتكرير الإساءة - بالتزيد والتمادي فيكون ذلك سببا في تفاقم الخطب".

والمغلوب على أمره يتأسى بنوح عليه السلام حينما عجز عن قومه: {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر}، أما القادر على الانتصار بقيوده وشروطه الشرعية، فلا عذر له في الخنوع والاستكانة للظالمين.

فأما قوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى:43] فقد قال فيه القرطبي: "هو محمول على الغفران عن غير المصر، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه". وأما كظم الغيظ فمستحسن ومندوب إليه بعد التمكن من الظالم والقدرة عليه، وإذا علم صدق توبته وندمه، أو أنها زلة منه لم يصر عليها، فالعفو عنه عندئذ هو الأولى، أما عفو الضعيف فهو عفو المكره المستضعف ولا فضيلة فيه.

إن إحياء خلق (الانتصار) هام وضروري، لئلا تعتاد الأمة قبول الذل، لا من فاسق يقهرها، ولا من كافر ينحرها، لأن الامة التي تعتاد السكينة أمام الظلم، والوداعة أمام الخسف والعسف، تفقد دافعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنعدم فيها روح الجهاد، فهل نحن منتصرون حين يلزم الانتصار ممن لا يرتدع إلا بالانتصار؟

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة