من ألفاظ (الكثرة) في القرآن

0 890

من الألفاظ القرآنية التي تشترك في معنى واحد من حيث الأصل اللغوي، مع وجود بعض الفوارق من حيث المعنى الدلالي، نقف على الألفاظ التالية: (جم)، و(غدق)، و(لبد)، و(كثر).

وقد ورد اللفظ الأول (جم) في موضع واحد في القرآن، وهو قوله تعالى: {وتحبون المال حبا جما} (الفجر:20)، وورد اللفظ الثاني (غدق) في موضع واحد أيضا، وذلك في قوله تعالى: {لأسقيناهم ماء غدقا} (الجن:16)؛ وورد لفظ (لبد) في موضعين؛ الأول: في قوله تعالى: {كادوا يكونون عليه لبدا} (الجن:19)، والثاني: في قوله سبحانه: {يقول أهلكت مالا لبدا} (البلد:6)؛ أما لفظ (كثر) ومشتقاته، فقد توارد في القرآن في نحو تسعين موضعا، كقوله تعالى: {أضعافا كثيرة} (البقرة:245)، وغير هذا كثير.

وللوقوف على حقيقة هذه الألفاظ، لا بد من الرجوع إلى معاجم اللغة؛ لمعرفة الأصل اللغوي لتلك الكلمات، ومن ثم النظر في استعمالاتها في القرآن والسنة .

أما لفظ (جمم) فيفيد معنى الكثرة والاجتماع؛ يقال: جم يجم ويجم جموما: كثر واجتمع؛ وجم المال وغيره: إذا كثر.

ومنه قول أبي خراش الهذلي:

                     إن تغفر اللهم تغفر جما      وأي عبد لك لا ألما

وفي صلح الحديبية، جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا)، رواه البخاري؛ قال ابن منظور: أي: استراحوا وكثروا.

 

وقوله سبحانه وتعالى: {وتحبون المال حبا جما} أي: تحبون المال حبا كثيرا؛ وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، في معنى الآية، قال: يحبون كثرة المال.

أما لفظ (غدق) فيدل أصله على الغزرة والكثرة؛ فـ (الغدق): الغزير الكثير، يقال: غدقت عين الماء تغدق غدقا، أي: غزرت وكثر ماؤها. و(الغدق): المطر الكثير العام.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا طبقا مريعا غدقا)، رواه ابن ماجه.

وقوله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا}؛ أي: كثيرا.   

وأما لفظ (لبد)، فأصل هذه المادة في اللغة، يفيد معنى تجمع الشيء، وتكدسه بعضه فوق بعض، ومدلول هذه الكلمة يفيد الكثرة؛ يقال: (لبد) الشيء بالشيء يلبد، إذا ركب بعضه بعضا؛ وأطلق على الجماعة من الناس، يقيمون مع بعضهم: (لبدة)؛ لاجتماعهم.

وقد ورد في السنة ما يفيد هذا المعنى، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم لحفصة، وقد سألته عن سبب عدم تحلله من الحج، فأجابها: (إني لبدت رأسي)، رواه البخاري؛ و(التلبيد) أن يجعل المحرم على شعره شيئا من الصمغ، ليلتصق بعضه على بعض؛ ويمنعه من التشتت والتفرق؛ ففيه معنى (الكثرة) والاجتماع.

وهذا اللفظ جاء في القرآن في موضعين - كما تقدم -؛ الأول: قوله تعالى: {كادوا يكونون عليه لبدا}، أي: كادوا يكونون على محمد صلى الله عليه وسلم جماعات بعضها فوق بعض؛ وذلك لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو قومه إلى دين الحق، اجتمعت العرب عليه؛ لإطفاء ما جاء به من البينات والهدى، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من عاده. وقد روي عن الحسن البصري، أنه قال في قوله تعالى: {كادوا يكونون عليه لبدا}، كادت العرب تكون عليه جميعا؛ وقال سعيد بن جبير: تراكبوا عليه، ونحو هذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

والكلام في الآية -كما قال ابن عاشور- من باب التشبيه والتمثيل؛ أي: كاد المشركون يكونون عليه صلى الله عليه وسلم مثل اللبد، متراصين مقتربين منه، يستمعون إلى دعوته؛ وهم -في الوقت نفسه- يضمرون له الغيظ والغضب والأذى .

والموضع الثاني: قوله سبحانه: {يقول أهلكت مالا لبدا}، أي: مالا كثيرا، بعضه فوق بعض.

أما مادة (كثر) فتدل على خلاف القلة؛ يقال: كثر ماله يكثر كثرة فهو كثير، وقوم كثير.

ومما ورد في السنة حول هذه المادة، قوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا أصحابه، وكانوا في سفر، وكان يقرأ عليهم قول الله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} (الحج:1)، قال: (إنكم لمع خليقتين، ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج) رواه الترمذي.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم، واصفا تداعي الأمم على أمة الإسلام: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، رواه أبو داود.

وقد ألمحنا إلى أن مادة (كثر) بمشتقاتها، قد تواردت في القرآن الكريم فيما يقرب من التسعين موضعا أو يزيد؛ وقد وردت في أكثر المواضع في موضع ( صفة )، كقوله تعالى: {خيرا كثيرا} (البقرة:269)؛ ووردت في مواطن غير قليلة في موضع (الحال)، كقوله تعالى: {واذكر ربك كثيرا} (آل عمران:41)؛ ووردت في بعض المواضع في موضع (اسم)، كقوله تعالى: {منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} (المائدة:66) ؛ ووردت في مواضع قليلة في موضع (فعل)، كقوله تعالى: {يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس} (الأنعام:128)؛ ووردت على صيغة (تفاعل) في موضعين؛ الأول: قوله تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال} (الحديد:20)؛ وثانيهما: قوله سبحانه: {ألهاكم التكاثر} (التكاثر:1).

والمقصود من ( التكاثر ) في الآيتين، المكاثرة في الأموال والأولاد، على سبيل التباهي والتفاخر، فإن ذلك مذموم؛ لأنه يصد العبد عن أمر الآخرة، ويشغله عن واجباته الدينية .

وإذا كانت الألفاظ الثلاثة: (جمم) و(غدق) و(لبد)، تشترك فيما بينها في معنى (الكثرة) في جميع المواضع والسياقات التي أتت بها، فإن الاتفاق على هذا المعنى، لا يعني التطابق بينها من كل وجه، ولا يمنع أن يكون بينها بعض الفروق اللغوية؛ كما قالوا في الفرق بين لفظ (الجم) ولفظ (الكثرة) إن لفظ (الجم) يفيد الكثرة مع الاجتماع، في حين إن لفظ (الكثرة) قد تفيد الاجتماع، وقد لا تفيده؛ وأيضا فإن (الجم) يفيد الكثرة مع الحرص والشره، في حين أن لفظ (الكثرة) لا يستلزم ذلك. ولفظ (الغدق) يفيد بالإضافة إلى معنى الكثرة معنى الحركة والجريان، في حين أن اللفظين (الجم) و(الكثرة) لا يستلزمان ذلك. وكذلك، فإن لفظ (لبد) يفيد بالإضافة لمعنى (الكثرة) معنى التجمع والتكدس، في حين أن الألفاظ الثلاثة الأخرى، لا تستلزم هذا المعنى بالضرورة .   

وعلى العموم، فإن لفظ (كثر) يعتبر هو الأصل في موضوع (الكثرة)، والألفاظ الثلاثة الأخرى صادرة عنه، وراجعة إليه. وربما لأجل هذا السبب، كثر استعمال لفظ (الكثرة) في القرآن، دون الألفاظ الثلاثة الأخرى.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة